هل ولّى زمن الإعلام العمومي؟


تتحالف أنماط التعرض والتأثير السائدة في المشهد الاتصالي الغربي مع النزعة البراغماتية الجارفة لدى بعض الساسة والمسؤولين ضد مفهوم الإعلام العمومي، فتتعاظم الضغوط عليه، ويضحى مستقبله على المحك.
والإعلام العمومي هو نسق اتصالي متكامل ووظيفة واضحة ودور مطلوب، من أجل صيانة مرتكزات المجتمعات والدول الراشدة، فيما يتعلق بتعزيز التكامل والاندماج الوطنيين، ومعالجة حاجات الجمهور المُلحة للمعلومات الدقيقة والتحليلات الموضوعية، وخدمة المصالح العامة وتحقيق المشاركة الديمقراطية، وإتاحة الفرص المتكافئة للأطراف الوطنية للتعبير عن مصالحها ورؤاها وتلبية احتياجاتها الترفيهية والثقافية بشكل متوازن.
لا يمكن القول إن هذا الإعلام العمومي -الذي انبلج عهده بموازاة رسوخ مفهوم الدولة الوطنية في الغرب، وشهد أوج ازدهاره في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية- كان خالياً من كل عيب أو قادراً على تحقيق الفاعلية المرجوة في الحالات كلها، ومع ذلك فإن تجربته في القارة الأوروبية تحديداً ظلت مصدر إلهام للمنظومات الإعلامية التي رامت الرشد في الكثير من مناطق العالم الأخرى.
وبينما تظهر أنماط الإعلام العمومي المملوك للدولة والمُدار بواسطة هيئات مستقلة عن السلطة التنفيذية في معظم دول القارة الأوروبية، ظلت 13 من دول الاتحاد الأوروبي توفر تمويلاً مستقلاً لهذا الإعلام، عن طريق إلزام المواطنين، أو حضهم، على دفع ضرائب سنوية تذهب مباشرة للأقنية الإعلامية العمومية من أجل تشغيلها وإدامتها وتطوير أعمالها.
ولذلك، فإن المواطن الفرنسي على سبيل المثال يدفع 138 يورو سنوياً ما دام يمتلك جهاز تلفزيون، ليكون مجموع تلك الإتاوة 3.2 مليار يورو سنوياً، تمثل الجزء الأكبر من نفقات تشغيل منظومة الإعلام العمومي في البلاد، وتُبقي تلك المنظومة بمنأى عن الخضوع لضغوط من الحكومة عبر غلّ يدها عن التدخل في إقرار تلك المخصصات.
وفي ألمانيا، التي نقلت تجربة الإعلام العمومي البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأدخلت عليها بعض التطوير والتحسين، يدفع المواطن 210 يوروات سنوياً، لتتجمع حصيلة تبلغ أكثر من ثمانية مليارات يورو تموّل عمل هذه المنظومة.
وكانت المملكة المتحدة سبّاقة في هذا المضمار، خصوصاً عبر تطوير هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، التي ظلت لعقود أنموذجاً يُحتذى في هذا الصدد، بحيث يدفع المواطن الذي يمتلك جهاز راديو أو تلفزيون مبلغ 190 جنيهاً إسترلينياً سنوياً لضمان تشغيل الهيئة. وهو المبلغ الذي ظل عُرضة للمراجعة على خلفية اتهامات وانتقادات لأداء الهيئة ومدى التزامها بعناصر الموضوعية والحياد والتمثيل العادل لمصالح الأطراف الوطنية المختلفة.
في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، كان الإعلام العمومي الفرنسي موضوعاً للجدل، حيث ذهب مرشحو اليمين، وخصوصاً مارين لوبان، إلى ضرورة خصخصة تلك المنظومة الإعلامية بعد التشكيك في جدواها، في الوقت الذي كانت وسائط «التواصل الاجتماعي» هي الأداة الرئيسة للاتصال لدى مرشحي هذا التيار.
وفي حين أعرب مرشحو اليسار عموماً عن تقديرهم لمنظومة الإعلام العمومي ورأوا ضرورة إدامة نمط تمويلها المستقل بعيداً عن تدخلات الحكومة، وعد الرئيس إيمانويل ماكرون ناخبيه بإلغاء الضريبة السنوية التي لا تتجاوز 138 يورو بداعي تعزيز القدرة الشرائية لهم. ومن ثم، سارعت الحكومة الفرنسية، في أعقاب فوز ماكرون بولايته الثانية، إلى تفعيل هذا التعهد من خلال الدفع بمشروع لإلغاء ضريبة المساهمة في تمويل الإعلام العمومي، وهو مشروع لاقى معارضة كبيرة من كثيرين في أوساط اليسار، والعاملين في هذا القطاع، والنقابات المهنية المعنية، التي تظاهر أعضاؤها وأعلنوا الإضراب عن العمل لحمل السلطات على العودة عنه.
لا يمكن تصديق أن إعفاء المواطن الفرنسي من دفع نحو عشرة يوروات شهرياً سيحسّن من قدرته الشرائية أو يخفف الضغوط الاقتصادية عليه، خصوصاً أن المواطنين الأكثر احتياجاً مُعفَون من دفع تلك الضريبة، كما أن ماكرون لم يقل إن الحكومة ستتخلى عن توفير نفقات تشغيل تلك الوسائط العمومية، ما يعني أن هذه النفقات ستتوفر عن طريق ضرائب أخرى.
لا نشهد هذا السجال إزاء دور الإعلام العمومي واستمراريته وطريقة تمويله في فرنسا وحدها، بل نراه يمتد إلى دول أوروبية أخرى. ومع الإقرار بأن هذا الإعلام ينطوي على مثالب وجوانب قصور، وأن بإمكانه تحقيق تطور وجاذبية وفاعلية أكبر، فإن التذرع بالضائقة الاقتصادية العالمية والمحلية لحرمانه من مورد تمويله المستقلّ ليس سياسة بريئة أو رشيدة.
إن بعض القيادات والحكومات والتيارات السياسية الأوروبية ترى في الإعلام العمومي عبئاً عليها، كما تجد في «السوشيال ميديا» وسيلة أكثر فاعلية لإيصال رسائلها وتعزيز مكانتها، ولذا فإن جهوداً تُبذل لإضعافه وتهميشه، وهو سيُفقد المجتمعات والدول ضمانة مهمة لتحقيق أهداف وطنية تتجاوز الحزبية والنزعات البراغماتية للساسة.

*نقلاً عن "الشرق الأوسط"

تاريخ الخبر: 2022-07-19 18:17:54
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 82%
الأهمية: 96%

آخر الأخبار حول العالم

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 59%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:00
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:44
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية