صناعة الحرية (2).. مقدمة الكتاب


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، وآل البيت الطيبين، والصحابة والتابعين، وحسن أولئك رفيقا إلى يوم الدين.

أما بعد،

فيظن بعض الناس أن التجارب السجنية للعلماء والمفكرين والفلاسفة، تشكل استثناء في حياتهم، بما أنها لحظات منع وتعطيل واضطهاد، وقد لا يلتفت إلى قيمتها وأثرها، غير أن المتفحص في تلك التجارب سرعان ما ينتبه إلى أهميتها القصوى وهو يمعن النظر في مجملات وتفاصيل المشاريع الفكرية والمجتمعية التي سجن من أجلها أصحابها، مَن كان منهم صاحب فكرة ومشروع.

ورغم ما تذكره كتب التاريخ ومؤلفات “أدب السجون” من صنوف التنكيل بالسجناء والترهيب النفسي والتعذيب الجسدي الذي يمارس عليهم، ناهيك عن الزج بهم فرادى في زنازين تحت الأرض، أو في أعماق الآبار، أو في الفيافي المقفرة، إلا أن رهبة السجن قد تُصير الابتلاء القاسي مصنعا للحرية ومختبرا للرجولة، فلا تزيد أصحاب العزائم القوية إلا صلابة وثباتا، فيحدث أن تنقلب المحن والبلايا في حقهم منحاً وعطايا.

والأمثلة في الموضوع من كثرتها تستعصي على الحصر، نذكر منها تجربة السَّجن في حياة عالم من علماء المغرب المعاصرين، آمَن بفكرةٍ نبيلة، وتحقق بمقتضاها بكُليته، فصدع بها بشجاعة، غير عابئ بمن صدقه أو كذبه، ولا ملتفت لمن خوَّفه أو استخرفه، وتحمل تبعاتها في غير خوف ولا وجل، ومضى في طريقه قاصدا غير متردد، وكتب الله له القبول بين خلق كثير، وذاع صيته في العالمين، إنه الأستاذ والمربي والأديب والمفكر الإسلامي الكبير عبد السلام ياسين رحمه الله (1928-2012م)، الذي عاش مضطهَدا شخصُه وفكرُه ومشروعُه من سنة 1974م إلى رحيله عام 2012م.

نحاول الكتابة في الموضوع من خلال ما تيسر لنا من مصادر ومراجع في مثل هذه الظروف  التي أغلقت فيها المكتبات أبوابها، وقُيِّد فيها الخروج والتنقل إلا لضرورة المعاش أو العمل، ولعل القارئ سيجد ثغرات لم تملأ وأسئلة لم يجب عنها، للسبب نفسه.

 وأجدني أتشرف شرفا لا أستحقه وأنا أكتب عن هذا الرجل الذي وهبه الله تعالى نورا قلْبيا ورُشدا قبْليا وإرادة نادرة، وهو مع ذلك وبعده عالمٌ ومفكر يملك نسقا فكريا عميقا ومتكاملا، كتب عشرات الكتب (أغلبها في السِّجن)، تُرجمت إلى كثير من لغات العالم، وتُدرَّس في العديد من الجامعات، ويتناولها بالمدارسة والبحث الكثير من الباحثين في معاهد ومراكز البحث والكليات. فهو باختصار صاحب نظرية إسلامية في التغيير،  بسط مجملها في تفاصيل تراثه الغني طيلة 41 سنة من التأليف (من 1961 إلى 2002م).

 وقد حرتُ وترددت في منهجية هذه الكتابة العجلى، وفي القضايا التي أركز عليها أكثر من غيرها، وتساءلت: هل أكتب موضوعا بلا إشكالية تشده إلى قطب رحاها؟ أم أنجز تأريخا يسرد كرونولوجيا محطات المرحلة السجنية في حياة الرجل؟ وهل تراني أكتب فهرسة كما يكتب التلاميذ عن سير أساتذتهم ومناقب شيوخهم؟ أم أدبج مقالة احتجاجية بنَفَس تدافعي يبرز مظلومية الرجل والاضطهاد الذي تعرض له؟ وهل أنصرف إلى تحليل أسباب الظلم الذي مورس عليه وأشكاله ومراميه ونتائجه؟ أم أكتب عن أثر السجن في حياة الأستاذ النفسية والفكرية والاجتماعية وفي مسيرته الدعوية والسياسية؟ أم أنصرف إلى الحديث عن مواقفه مما جرى حوله، ومواقف غيره مما جرى بين يديه ومن حواليه؟ أم أضرب صفحا عن كل ذلك وأُدون مذكرة في تاريخ أفكار الرجل وكيف تجددت مع تطور الأحداث إلى أن استوت كُلياتها نظرية في التغيير؟

وبعد تردد، اخترتُ المغامرة في رحلة شبيهة بسيرة غيرية تتحرى الانتصار للموضوعية والابتعاد عن الذاتية، بإدماج كل تلك القضايا في مخطوطٍ قد يفيد المؤرخ الذي تُهِمه أحداث المرحلة ودروسها، والباحث في سير العلماء والأعلام ومكانتهم في التاريخ، والسياسي الذي ينتصر لمبادئ الحق والعدالة، والحقوقي الذي يرابط في ثغر الدفاع عن كرامة الإنسان، والمناضل الذي يطلب قدوة لنضاله وتجلُّده، والمؤمن التقي الذي لا يبيع الدين بالتين، والمثقف النزيه الذي حيَّرته مطامع الناس وألجمته مقامع السلطان، والقارئ الهاوي أيضا الذي تهمه النوادر بلا زيادات.

ولذلك، وكي أكون صريحا منذ البداية، فسأعبر عما بدا لي أو عن بعض ما بدا لي بحرية وتلقائية ومسؤولية، والسبب هو أنني أكتب وجهة نظري في رجل أعرف عنه ما يدعوني إلى التحدث في فكره ومشروعه، ففي تجربته السجنية اختزال لكثير من الأحداث واكتناز لكثير من الدروس، وقد يسر الله لي زيارته أثناء الحصار وبعده، ومجالسته جلسات طويلة، كما اطلعت على جميع ما وصلني من مكتوباته ومسموعاته ومحاضراته. وما زلت أتعلم منه…

ويا ليتني تعلمت!

كنتُ أظن في البداية أنني بصدد تحرير مقال في عشر صفحات فإذا بي أجدني مشدودا إلى الفكرة، كلما هممتُ بإنهاء القول فيها تداعت بنات الأفكار، حتى استوت خاطرة يومٍ ما كُتيبا يحمل عنوانا وفكرة ورقم إيداع قانوني، وقائمة مصادر ومراجع. وسيجد القارئ أن الكتاب يتضمن أخبارا ونصوصا سبق نشر بعضها متفرقة وبمناسبات عديدة، كما يتضمن وثائق وأخبارا لم يسبق نشرها من قبل، انتظمت جميعها في نسق جامع يربط جزئياتها بكليات الموضوع: رجلٌ يصنع حريته من سجنه وحصاره.

وإن كان أسلوب الكاتب يمتح من المنهجية الأكاديمية، فهو لا يزال يحتاج إلى تطوير و”نقشٍ” ليرقى إلى مستوى ما يُكتب في مثل هذه الموضوعات التي يتحاشى الأكاديميون البحث والكتابة فيها إلا ما ندر..

ولا يفوتني بالمناسبة شكر جميع الأصدقاء الذين شرفوني بقراءة مسودة هذا المكتوب ومراجعته قبل طبعه، كما أشكر الصديق العزيز والسجين السابق بمعتقلات تزممارت الأستاذ أحمد المرزوقي على تقديمه لهذا العمل.

وبخصوص تصميم الكتاب فإن موضوعه يفرض تقسيمه إلى خمسة فصول، منها ثلاثة منسجمة مع مراحل السجن الثلاث التي تعرض لها الأستاذ، وفصل رابع للمؤلفات التي كتبت في السجن، والفصل الخامس للملاحق من رسائل ووثائق وبيانات ذات الصلة بالموضوع.

الفصل الأول: مرحلة (1974-1978م) في “سجن” المجانين بمراكش

الفصل الثاني: مرحلة (1983-1985م) في سجن لعلو بالرباط

الفصل الثالث: مرحلة (1989-2000م) في سجن الحصار بسلا

الفصل الرابع: تجربة الكتابة والتأليف في السجن والحصار

الفصل الخامس: ملاحق تتضمن وثائق ورسائل وبيانات

وخاتمة.

ولئن اخترتُ “صناعة الحرية” عنوانا لهذا الكتاب بعد تردد بين عدة عناوين دالة، فقد تمخضت عن هذه الصناعة ثلاثة مشاريع/صناعات أخرى مقترحة، تنظر كل واحدة منها في مرحلة من مراحل حياة الأستاذ، وهي “صناعة المعرفة” (1928-1965م) في نشأته وتكوينه العلمي والأدبي ونبوغه الثقافي، و”صناعة الروح” (1965-1972م) في مساره التربوي السلوكي، و”صناعة التاريخ” (1973-2012م) في مشروعه المجتمعي التغييري، يسر الله إنجازها قريبا إن شاء الله.

أحمد الفراك

تطوان-المغرب

بداية الحجر الصحي

(مارس 2020م)


[1] أُدون هذا الكتاب في ظروف الحجر الصحي الإجباري الناتجة عن جائحة فيروس كورونا المستجد.
[2] انظر: أعراب، إبراهيم. الإسلام السياسي والحداثة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2000م، ص 81.
تاريخ الخبر: 2022-07-22 15:20:16
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 52%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 59%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:44
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:00
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية