بعد فترة من رجوعي هاتفني أحد الأصدقاء وقال: لقد كتب عن تجربتك الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح. فرحت بها كثيرا. ثم حدث أن فقدت نسختي مما كتبه، ظللت أبحث عنها بين أوراقي وفي ذاكرة جهازي. لكن دون جدوى، حتى يئست تماما.
الأسبوع الفائت اتصل بي أحد الأصدقاء وقال لي: عندي بعض الأوراق الخاصة بك، أعتقد أنك نسيتها عندي منذ فترة، وعندما تصفحتها وجدت ما أبحث عنه منذ فترة طويلة، هذه القراءة بينها. كان فرحي بها ليس له حد. وهنا أضع بين يدي القارئ جزءا من هذه القراءة.
(كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصا للواقع وللشعر في آن؟ هذا هو السؤال الذي خرجت به من قراءة الأعمال الشعرية الصادرة للشاعر محمد الحرز، ومنها عمله الشعري الأخير الذي قرأت نسخة منه قبل صدوره، فقد كان الشاعر في زيارة قصيرة إلى صنعاء في العام الماضي 2010، ومنحني هذا السبق الذي اعتز به، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة أعماله السابقة وفي طليعتها مجموعته الأولى (رجل يشبهني).
رجل يمسح أرصفة الشمس
بظِل
من يده اليمنى
ويظل النهر المشدود
بعتمة أيدي الليل
يقبّل أحجارا
من يدِهِ اليسرى (ص 5)
اللغة هنا لا تقصي الدلالة بل تتماهى معها، وقد تزيحها جانبا عن طريق الشعر لتعود إليها بعد أن يكون الشعر قد مارس وجوده وتألقه، وهو ما لا تفعله نصوص كثيرة تدعي أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، وهي ليست كذلك وهو مما جعل البعض لا يرى فيها شعرا يملأ الروح نشوة والجسد انفعالا، كما فعل معنا النص القصير السابق، علما بأن أغلب نصوص المجموعة في المستوى نفسه من الاقتصاد في العبارة واستقطاب للحواس، حيث لم يعد الشاعر جوّاب عصور وأمكنة يلتقط صورة من هنا وأخرى من هناك، وإنما صار أهم ما ينبغي الانتباه له هو التحليق في أجواء نفسه والبحث في جسده هو، وأجساد الأشياء من حوله.
ولم يكن النص السابق سوى رحلة تمارسها يداه اليمنى واليسرى، وكان لابد من استدعاء (يَدَيْ الليل) لتكتمل اللوحة التي تجمع بين النص الحاضر والخطاب المضمر أو الغائب. وهو ما قد يتجلى بوضوح أكبر في هذا المقطع من نص آخر:
في غفلة من كآبته..
أحلامه اندلقت
قرب السرير
مثل غيمة
انحدرت من جبل يقف متكئا
على حافة شرفاتهم
المتعبة. (ص 19)
أعترف أنني أحببت هذه المجموعة الشعرية لمحمد الحرز، مع أنها الأولى في مساره الإبداعي، وشعرت نحوها بشغف خاص، بوصفها شعرا لا يكشف عن مضامين متوقعة أو يبوح بوقائع يكتنفها الغموض، ولأنها - وهي تحملك بعيدا عن كل ما هو عادي واقعي- تجعلك مغمورا بواقع قد يكون تذكاريا لم تره من قبل ولكنك تحسه وتشعر نحوه بجاذبية خاصة).
@MohammedAlHerz3