"كان كثير من الوقت يُهدَر، وكان العالم واقفاً ويبدو أنه لا يتحرك ولن تدور عجلته قريباً، لهذا كان عليَّ أن أتحرّك في اتجاهٍ ما، وأبدأ بشيء، أي شيء، المهمّ أن أفعل شيئاً، ولا أدَع ما تفرضه جائحة كورونا من حجر منزلي يبدّد الأيام هباءً، بعد كثير من التفكير وجدتني أبدأ تعلُّم التطريز الفلسطيني غرزة غرزة، ومع الأيام بدأت لوحاتي تملأ البيت".

بهذا الحديث تستهلّ سلسبيل أبو جربوع، 28 عاماً، فلسطينية مقيمة في إسطنبول، حكايتها مع مشروعها "سلسبيل آرت" الذي أصبح معروفاً بشكل متفرد في كل أنحاء إسطنبول، ويُطلَب منه خصوصاً لوحات ذات مواصفات محددة، لتعلق في صدر البيوت التي تعشق فلسطين، وفي جدران غرف نوم الفلسطينيين المغتربين، حيث تغفو عيونهم على أمل أن يعودوا إلى وطنٍ يحتضنهم.

التعلُّم الذاتي هو بداية الدرب

تقول سلسبيل لـTRT عربي عن بداياتها: "عندما تعلمت أسس التطريز الفلسطيني ما بين مشاهدة فيديوهات وتجريب وتدريب، وجدت نفسي أتمكّن منه، ثم بدأت رويداً رويداً تطويع تخصصي الدراسي وهو "الغرافيك والوسائط المتعددة"، وحاولت أن أصنع لي أسلوباً خاصاً في اللوحات التي أنجزها، إذ أحدد وأخطط اللوحة فنّيّاً على برامج التصميم عبر حاسوبي، قبل أن أبدأ تنفيذ عملية التطريز التي تأخذ أياماً أو أسابيع وفقاً لمخطَّط كل لوحة".

ويُعرَف فن الغرافيك بأنه أسلوب إبداعي يستخدمه الفنان/المصمم عبر مجموعة من الأشكال لإنتاج رسومات مرئية تعبر عن هدف معيَّن يريد إيصاله إلى عين الرائي.

وفلسطينياً، يُعتبر التطريز فنّاً إبداعياً وجزءاً من الهوية وإرثاً تحرص المرأة على أن تنقله إلى بناتها وحفيداتها، وتتميز كل منطقة جغرافية في فلسطين بنوع معين من "غرزة التطريز"، فيكون الثوب المطرز دليلاً على القرية أو المدينة التي تنتمي إليها المرأة، فالثوب الذي ترتديه امرأة من مدينة رام الله بتطريز غرزة العلقة لا يشبه تطريزه ثوب امرأة من مدينة يافا حيث يُطرَّز ثوبها بغرزة السروة، فلكل مدينة وقرية من وحدات التطريز ما يميزها.

البداية تنمو وتكبر

"بعدما تعلمت وحدات التطريز الشهيرة التي يبلغ عددها 10 وحدات: العلقة، والساعة، والريش، وعرق اللوز، والحجاب، والصليب، والسروة، والكأس، والخيمة، والغرزة الفلاحية، أدمنت التطريز باستعمال الغرزة الأخيرة على شكل (x)، وبدأت حينها تصميم لوحات أكثر احترافاً عبر برامج التصميم الغرافيكي، ثم عكسها على القماش، وبدء تطريزها عبر الغرزة الفلاحية".

من أعمال مشروع سلسبيل آرت (Others)

وعن ردود الفعل التي تلقّتها على أول لوحاتها تقول سلسبيل لـTRT عربي: "كانت تعليقات مَن يشاهدها إيجابية ومحفزة ومشجعة على الاستمرارية، إلى أن أتى أول طلب، وتوالت بعدها الطلبات على اللوحات التي أصبحت أذهب بها إلى محلّ خاصّ، لتأطيرها في إطارات خشبية مناسبة، تزيدها رونقاً وجمالاً".

وبفرحة عارمة تسترجع سلسبيل ذكرياتها عن أول معرض شاركت به فتقول: "انطلاقتي الحقيقية بدأت من معرض الكتاب العربي في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فمن خلاله عرف كثيرون مشروعي ومنتجاته من لوحات، وجذبتهم غرابتها إذ إنها أعمال تطريز مبتكَرة غير شائعة ولا متكررة من تلك التي تكون دوماً منتشرة في المعارض، فقد ترى لوحة من لوحاتي رياضية المحتوى لكنها مطرزة بالتطريز الفلسطيني الخالص".

ولطالما نجحت المرأة الفلسطينية منذ القدم بتطويع فن التطريز في أشياء أخرى غير الثوب الفلسطيني، فاستخدمت وحداته بغرض تزيين المفارش والمحافظ، والحقائب والإكسسوارات والوسائد، ليكتسي ما حولها بهويتها.

التاريخ الفلسطيني بشكل حديث

وعن كيف يمكن للوحاتها أن تعكس التاريخ الفلسطيني تؤكد سلسبيل لـTRT عربي أن "التطريز الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الهوية والتاريخ الفلسطيني، ومجرد وجود غرزة فلسطينية على لوحة ما هو نقل متداول للتراث والثقافة الفلسطينية من يد إلى أخرى ومن عقل إلى آخر ومن ذاكرة جيلٍ إلى ذاكرة جيل، فاللوحات الحديثة رسالة مبطنة إلى كل من يحب فلسطين ويعشق الأقصى ويناصر القضية الفلسطينية، إننا هنا باقون وللحلم بقية".

من أعمال مشروع سلسبيل آرت (Others)

وتتابع: "بعض منتجاتي لوحات تحمل الرموز الفلسطينية مثل المسجد الأقصى أو مفتاح العودة أو خريطة فلسطين، وهي ضمن المتداول الذي حاولت أن أضيف إليه من خلال الخط العربي الذي تعلمته أيضاً وأضفته إلى قائمة لوحاتي، لكني ذهبت إلى ما هو أكثر من ذلك بتطريز الأشياء (اللطيفة) التي يحبها الناس أو يعتبرونها جزءاً من نمط حياتهم اليومي أو رياضاتهم وهواياتهم المفضلة، كرموز الأندية الرياضية والموسيقى وأجواء المطر والطبيعة".

لم يكن يوجد مُرشد

أما عن التحديات التي واجهت سلسبيل في مشروعها فتوضح لـTRT عربي: "ربما أصعب ما مررت به على الإطلاق هو قلة خبرتي بالمكان، عدم معرفتي بالأماكن التي عليّ أن أحضر منها ما أحتاج إليه لمشروعي، فافتقرت إلى المرشد في التوجيه وإدارة نفقات المشروع".
تتابع عن الصعوبات التي واجهتها: "لم يكن أحد يوجهني أو ينصحني بأفضل وأرخص مكان أجلب منه الموادّ الأولية وأجودها، لهذا بذلت في البداية كثيراً من الجهد والوقت والتجارب". وأضافت أن ضعف التمويل كان أحد أبرز التحديات أيضاً، إذ بدأت المشروع بملبغ زهيد هو آخر راتب تقاضته من وظيفتها، ولا يتجاوز بضع عشرات الدولارات.

طموح لوحات تسافر حول العالم

من المحنة تُولَد المنحة، تقول سلسبيل: "لم أكن لأتخيل يوماً أن أؤسّس مشروعي الخاص وأقوده، لكن جائحة كورونا قادتني إلى أجمل ممَّا أتمنى يوماً؛ الآن توسعت في المنتجات التي أقدّمها إلى الأكواب التي تحمل شيئاً من تصاميم الغرافيك الخاصة بي، ثم الملصقات التي تعبِّر عن فلسطين، والهدايا التذكارية، والميداليات، وكل ما يمكن أن يحمله المسافر بخفَّة، وما يأخذه المغترب بين يديه فيصير تذكاراً لوطنه وأهله.

تضيف: "أسعى الآن لتطوير فريق عمل (نسائيّ) عبر تدريبه على التطريز وعمل لوحات توافق معايير (سلسبيل آرت) ليصل طموحي إلى العالمية، خارج تركيا، حيث محبو فلسطين في العالم وحيث يعشق الناس مهما اختلفت دياناتهم وألسنتهم وألوانهم التراث الفلسطيني".

جدير بالذكر أن تركيا تحتلّ المرتبة 44 من بين أفضل 100 دولة في العالم تتمتّع بنظام بيئي لتأسيس المشاريع والشركات الناشئة، وفقاً لتقرير "مؤشر النظام الإيكولوجي العالمي للشركات الناشئة 2021" الصادر عن مركز Startup Blink الذي يركّز على سهولة ممارسة الأعمال التجارية والوصول إلى مختلف الخدمات اللازمة لنموها.



TRT عربي