يشهد عدد من دول القارة الأوروبية موسم جفاف حاد، لم تعرف مثله منذ عقود أو حتى قرون، يضاف إلى موجات الحر التي توالت عليها هذا الصيف. ما جعل وكالات رصد الأحوال الجوية في فرنسا، كما في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، تصنف شهر يوليو/تموز المنصرم أكثر الشهور جفافاً.

ووفقاً لهذا الواقع، أعلنت حكومات تلك الدول حالات طوارئ مائية، بموجبها اتخذت إجراءات صارمة من أجل ترشيد استهلاك الماء. حيث فُرضت قيود على كيفية استعماله، وتقليص حصة الفرد منه، في موسم الصيف الذي ترتفع عادة فيه معدلات استهلاك هذه المادة الحيوية.

معدلات جفاف قياسية في فرنسا وإيطاليا

حسبما أعلنه وزير البيئة والتحول البيئي والتماسك الإقليمي الفرنسي كريستوف بيتشو، فإن البلاد شهدت في يوليو المنصرم "الشهر الأكثر جفافاً في تاريخها منذ عام 1959"، إذ لم يهطل فيه سوى 7.8 ميليمتر فقط موزعة على كل التراب الفرنسي، أي بعجز قدَّره الوزير بـ 88% "مقارنة بما كان ضرورياً".

وأضاف الوزير أن "هذا الوضع قابل للتفاقم مع بداية موجة حرارة أخرى، مما يعني أن لديك جفاف يقلل موارد المياه وموجة حرارية تزيد الطلب عليه"، وبالتالي "نحن في وضع حرج، هذه علامة جديدة على أن الاحتباس الحراري ليس دعابة، بل حقيقة تترسخ". ومن المرتقب أن تسجّل فرنسا الأربعاء والخميس "حرارة قصوى بين 34 و38 درجة مئوية"، وفق ما كشفت خدمة الأرصاد الجوية الفرنسية "ميتيو-فرانس".

وأعلنت 86 مقاطعة فرنسية حالة التأهب المائي بمستويات مختلفة. ونحو 15 منطقة في الشمال الغربي وعلى الساحل الأطلسي، كما في الجنوب الشرقي والوسط، أنها توجه أزمة مياه، وفق خبراء التساقطات الفرنسيين.

وفي إيطاليا، تعاني البلاد هي الأخرى موجة جفاف قياسية لم تعرف مثلها من 70 سنة. فانخفضت مستويات نهر بو، أطول نهر في البلاد، لدرجة ظهر في بعض المقاطع منه حطام السفن القديمة المتكومة في قاعه. كما يعد هذا النهر شريان الغذاء الإيطالي، إذ تستخدم مياهه في سقي 40% من الزراعة في البلاد، وبالتالي يهدد جفافه نسبة كبيرة من تلك المحاصيل.

وحسب ستيفانو فينغوليو، أستاذ الأحياء والمياه في جامعة تورينو، فإن سبب أزمة المياه التي تعيشها البلاد هو أنها مرت من "شتاء جاف ودافئ بشكل فريد، ولما يقرب من 100 يوم بلا تساقطات أو ثلوج أو مطر، بالإضافة إلى درجات حرارة أعلى من المتوسط بدرجتين خلال شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني".

والنتيجة، يقول علم الأحياء، "هي أن الأنهار لم تتلق أي مدخلات مائية، وبحلول نهاية فبراير/شباط كانت حالتها مشابهة جداً لحالة نهر في أغسطس/آب". وفي ظل هذه الظروف، أعلنت إيطاليا حالة الطوارئ المائية في خمس مقاطعات من شمال البلاد التي تشهد موجة الجفاف الحادة.

في إسبانيا والبرتغال.. أقسى جفاف من 1200 سنة!

حسب خبراء المناخ، يواجه كل من إسبانيا والبرتغال أقسى موجة جفاف منذ 1200 سنة. ذلك بعد الشح الكبير في الأمطار الذي عرفته تلك البلدان الشتاء الماضي، وموجة الحر الكبيرة التي توالت عليها منذ شهر أبريل/نيسان الماضي، ما يضعها أمام أزمة ماء عويصة.

وفي تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، فإن معظم التساقطات المطرية في شبه الجزيرة الإيبيرية خلال الشتاء، تأتي عبر ما يعرف بنظام "الضغط المنخفض" الرطب من المحيط الأطلسي، لكن نظام "الضغط العالي" قبالة الساحل، والذي يطلق عليه اسم "مرتفع جزر الأزور" يتسبب في منع المنخفض الجوي الرطب ودفعه شمالاً نحو بريطانيا والدول الإسكندنافية.

هذا ما يتسبب، حسب خبراء المناخ، في أن تعرف المنطقة أقسى موجة جفاف لها منذ 1200 عام. مشيرين إلى أن فصول الشتاء عبر نظام الضغط العالي زادت بشكل كبير، من فصل شتاء واحد كل 10 فصول قبل عام 1850، إلى فصل شتاء واحد كل أربعة فصول منذ عام 1980.

ووفقاً لتوقعات وكالة الأرصاد الجوية الإسبانية، فإن شتاء 2021-2022 كان أكثر فصول الشتاء جفافاً ورابع أكثرها دفئاً منذ أن بدأت في تجميع هذا النوع من البيانات قبل أكثر من 60 عاماً، إذ إن هطول الأمطار هذا العام أقل بنسبة 45% من الشتاء الماضي، وفي عدة أماكن على ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​لم يصل متوسط ​​هطول الأمطار حتى إلى ربع جزء من الكمية المعتادة.

وتضيف الوكالة أن جزر الكناري وجزر البليار كانت أكثر المناطق تضرراً من موجة الجفاف هذه، وأنه فقط في إقليم الباسك ونافارا تجاوز هطول الأمطار النسب المئوية المعتادة. أما عن درجة الحرارة، فقد حطمت أرقاماً قياسية هذا العام، إذ كان الشتاء الماضي أكثر دفئاً بدرجة ونصف درجة عن سابقه، مما يجعله ثالث أعلى درجة حرارة حتى الآن خلال القرن 21.

أما بالنسبة إلى البرتغال، فالحال ليس أفضل من جارتها الشرقية، حيث سجل مؤشر PDSI لقياس الجفاف تعرض 80% من مساحة البلاد لموجة جفاف قاسية. وحسب وكالة الأرصاد الجوية البرتغالية، فإن شهر مايو/أيار كان الأكثر سخونة على الإطلاق منذ 1939، وشهد تساقطاً للأمطار أقل بـ 13% من نظيره السنة الماضية.

إجراءات استعجالية

واتخذت السلطات الحكومية والإقليمية بهذه البلدان تدابير قاسية لمكافحة تبعات الجفاف الحاصل. وأقرت الحكومة أربع مستويات من القيود، من أجل ترشيد استهلاك المياه، في وقت يزداد الطلب عليه والإجهاد لموارده، مع ارتفاع درجات الحرارة.

وحسب موقع الحكومة الفرنسية، فإن هذه المستويات تنقسم إلى: "مستوى اليقظة" الذي حث على ترشيد استهلاك المياه وتخزينها، و "مستوى التنبيه والتنبيهات المتزايدة" التي تتطلب الحد من عمليات السحب المفرط للماء والأنشطة التي تؤثر على البيئات المائية، كسقي العشب أو غسل السيارات في المنزل، والتي يجرى تقييدها ثم منعها. وأخيراً ، "مستوى الأزمة" الذي يعطي الأولوية لتوفير مياه الشرب ويعزز حظر ري الملاعب الرياضية أو الحدائق، وغسل السيارات وملء المسابح.

وبذات الشكل، لجأت بعض المدن الإسبانية إلى اتخاذ تدابير لترشيد استهلاك المياه، ومنها مدينة كانجاس التي قرر مسؤولوها إزالة 20 دشاً من الشواطئ لمنع الاستحمام بهدف ترشيد المياه. وأعلنت وكالة المياه في إقليم كتالونيا أنها ستشرع في تحديد الحصة القصوى لاستهلاك الفرد من الماء، وتقليل سقي الحدائق ومنع ملء نوافير الزينة.

وفي إيطاليا، تضع الحكومة تركيزها على تبعات الجفاف على المحاصيل الزراعية شمال البلاد، حيث رصدت حزمة دعم استعجالي للفلاحين هناك، قُدرت بـ 36.5 مليون يورو، من أجل تخطي هذه التبعات القاسية على القطاع.

TRT عربي