«بار ليالينا».. «دون كيشوت» الجديد.. ممثل مغمور يواجه مجتمعًا زائفًا

خايلتنى شخصية «دون كيشوت» على امتداد قراءة رواية «بار ليالينا» لأحمد الفخرانى، الصادرة عن دار «الشروق»، التى قدم فيها نسيجًا سرديًا ولغويًا متقنًا ومحبوكًا عبر مفارقات شخصية البطل «نوح الرحيمى»، الكومبارس الحالم بتمثيل كل أدوار الموجودات فى العالم، ومجتمع «بار ليالينا» مأوى جماعة المثقفين المزيفين.

استعار «دون كيشوت» نموذجًا للفارس المثالى من كتب الفروسية هو «أماديس الغالى» أو «أماديس» فارس «بلاد الغال»، أى فرنسا، لكى يصبح فارسًا مشاء ينتصر للحق ويعيد العدل للعالم، دون أن يمتلك الأدوات الحقيقية للفروسية.

وحتى الأدوات التى استخدمها هى، كما يمكن أن نقول كانت «خرج بيت»، لكنه خرج بهذه الإرادة المزيفة والأدوات البالية لكى يصلح أحوال العالم، وينتصر للحق والخير، فكانت النتيجة أنه ملأ العالم بحماقاته النابعة من هذه المفارقة. 

ولعل «نوح الرحيمى»، بطل «بار ليالينا»، لا يختلف كثيرًا عن «دون كيشوت»، فهو موظف فى شركة أدوية أراد أن يكون نجمًا من نجوم السينما، فاختار أن يكون «كومبارس» يؤدى مشاهد صامتة قليلة فى أفلام حقيقية ليرضى الرغبة الدفينة فى أعماقه.

ووقع «نوح» على «قهوة بعرة» التى يجتمع إليها رفاق حلمه، متوهمًا أنه اختار الموقع المثالى ليحقق منه حلمه، لكنه يتبين أن المقهى، على نحو ما، يمثل مجتمعًا من لا صوت لهم، مملكة للصمت المضروب كقدر على «الكومبارس» الذى لا يتعدى وجوده فى الأفلام إلا مشهدًا عابرًا او اثنين على الأكثر، أو لقطة بين الجموع لا يسمع له فيها صوتًا، وإن نطق فبكلمة أو جملة فى أفضل الأحوال. 

ومرة أخرى أعود إلى «دون كيشوت» الذى خرج للعالم بإصرار صادق لرغبة مزيفة فى الفروسية، ولعله أعلن فى نهاية الأمر عن إخفاقه وفشله، لكن ذلك لم يمنع أنه نجح فى كشف الكثير من مظاهر القبح وشرور البشر، رغم الحماقات التى قلبت المعنى فى مرات عديدة، وحولت الأمر إلى مهازل. 

أما فى «بار ليالينا» فقد أدى الإصرار الصادق لرغبة «نوح» المزيفة فى أن يكون نجمًا فى عالم السينما أن يكشف ويكتشف زيف مجتمع آخر، لكن أفراده مسلحون بأدوات شكلية براقة، يتغذون على قشور الثقافة والسطحية، فيتعاملون بتعال بل ووضاعة مع «نوح»، لأنهم رأوا فيه نموذجًا مناسبًا للسخرية، وبالتالى لتضخيم إحساسهم بالتفوق المزيف. 

كما لو أن النص يقول بشكل ما إنه فى عالم قوامه الزيف يتحول البشر إلى مجموعة من الممثلين، «الكومبارس» يتقمص دور النجم دون أن يمتلك مواصفاته أو موهبته. والمثقف المزيف يمثل دورًا مستعارًا من شخصية مثقف آخر، أو ينقل أفكارًا من كتب كتبها آخرون، أو يستعير الكلام بلكنة مكسورة لتقديم صورة يريد أن يقدم بها ذاته المزيفة للعالم، مثل «نعمات»، مالكة «بار ليالينا».

وبذلك تغدو الحياة كأنها مسرح كبير لمجموعة من «الكومبارس»، لعل الحقيقى الوحيد فيها هو «الكومبارس» الذى يبدو أصدق مع نفسه من الآخرين، أو على الأقل، فهذا ما كشفته له المرايا السحرية التى اشتراها من بائع العاديات بالصدفة، وأسمعته خواء ذاته حين ضرب صدره وهو يقف أمامها مسحورًا، فبدا كمن يقرع طبلًا أجوف. 

لكن فى عالم كهذا قوامه السطحية والزيف وخواء الذات، لا يمكن لمثل «الرحيمى» إلا البحث عن استعارة صورة ما، على طريقة «دون كيشوت» فى تحوله للفروسية، فيختار لنفسه صورة شخصية «كمال الطاروطى»، التى جسدها فؤاد المهندس فى مسرحية «سيدتى الجميلة»، ولكن لأنها صورة مستعارة من استعارة، «فهى شخصية مسرحية وليست حتى نموذجًا من الواقع»، فهو لم يمتلك حتى اليقين فى قدرته على تقمص الشخصية، ففى أول مواجهة مع من أراد أن يمثل عليهم، أخبرهم بأنه «حسن مفتاح» بدلًا من «الطاروطى» كما كان قد خطط، وهى شخصية ثانوية فى نفس المسرحية أداها حسن مصطفى.

لكن يظل السؤال هو: هل «نوح الرحيمى» أحمق بالفعل أم مجرد رومانسى حالم يتصور أنه يمكن أن يتمثل العالم كله، بخيره وشره معًا، بالإضافة إلى تمثل المشاعر والجماد؟ 

لعله لا هذا ولا ذاك، وربما هو كتلة من الحماقة والرومانسية معًا، لكنه فى الحالتين كان مشغولًا بالمعنى الحقيقى لحياته بعد أن تناثرت جملة فى خرابات فكره ليصل إلى «أن الدنيا قسمت إلى نوعين: نجوم وكومبارسات، أذكياء يحوزون كل نعمة ويحصدون كل ميزة، وحمقى يحملون الدنيا على أكتافهم ولا يحصدون سوى الشقاء والمزيد من الفقر والطمس فى ظلام الإنكار والصمت، لكن لولاهم لخرب كل شىء».

فإذا كان الحمقى فى حاجة للأذكياء فماذا يريد الأذكياء من الحمقى؟ أن يسخروا منهم؟ أن يتباهوا بذكائهم عليهم، كما فعل الصحفى الشاب «نديم»؟ عل هذا هو ما تحاول الرواية الإجابة عنه، كاشفة عن طاقة العنف الباطنى الذى يتمتع به مجتمع رواد «بار ليالينا» من المثقفين، ولعلهم فى الحقيقة يمثلون نسيجًا أوسع من المجتمع. فإزاء الخواء الداخلى الذى يشعرون به، لا يجدون سوى طاقة العنف التى تتخذ سمت ازدراء الرجل الصغير واحتقاره والسخرية منه. فالمثقف المزيف يحتاج للضعيف لكى يتأكد من قوته المزيفة، ولهذا لن يجد نديم غضاضة فى وصف «نوح» بالقول: «أنت مجرد كومبارس تافه»!

فينكشف زيف «نديم» هنا لنفسه قبل الآخرين، فقد أعلن عن احتقاره الضعفاء بدلًا من الدفاع عنهم، ليس لأن هذا ما يعلن عنه ويعدّه هو وجماعة المثقفين قانونًا معلنًا فقط، بل باعتبارهم جميعًا جزءًا من جماعة المهمشين لصالح نجوم المجتمع والثقافة.

يستخدم أحمد الفخرانى لغة أدبية خاصة تهتم بالوصف فى مستويين، أولهما التقليدى الضرورى، ثم بتشبيه الحالات الشعورية والوجدانية والسلوكية باستعارات وصفية، فيعمل على حقن المتن باستعارات متوالية منحت السرد لغة أدبية ضاعفت قوة وصف المشاعر وتجسيد الأصوات أو نبرات الأغنيات. كما لو أنه اختار للنص لغة تحتضن الشخصيات وتعبر عنها، ثم تشير إليهم لتضع دلالات تلك السلوكيات فى سياقاتها. 

اللغة لا تؤدى دور نقل الحكاية وتوليد المعنى هنا، فقط، بل تشير إلى الدلالات التى تعكسها السلوكيات أيضًا، وبالتالى فإذا حل الصمت الذى يعد الدور الرئيس الذى يتقنه أى كومبارس، وخصوصًا فى حالة «الصمت الرهيب» فإن اللغة تعمل عمل مكبر الصوت الذى يلتقط ما لم يسمع فى الأثناء، لكنه قبع فى النفوس أو همست به الألسنة، أو بقى حبيس الصدور. 

ربما لم يهتم «دون كيشوت» بكشف زيف الشخصيات التى واجهها أمام ذواتها، فهو يرى ما يراه ويفسره وفقًا لضلالاته، فيتخذ حكمًا أخلاقيًا فوريًا وعلى أثره يقرر أن يقوم بمعاقبة الشرير، أو مصارعة الأشباح، فى التو وبلا تردد. 

من المؤكد أن «نوح الرحيمى» لم يمتلك هذه الروح الفروسية ولا ذلك الطموح، وإن لم يعدم الطيبة والرومانسية. وأيضًا حين راح يقرأ مقالات المجلة التى يعمل بها ثلاثة من رواد «بار ليالينا»، كان يستخدم فقرات من المقالات دون أن يعى المعنى الحقيقى لها، فيبدو منطقه أحيانًا منطق مخبول.

لكنه فى المقابل امتلك الفراسة التى مكنته من كشف زيف طبقة تدعى الثقافة، لأنه استخدم نفس منطقهم لإثبات قناعته التى تتعارض مع يقينهم مدعيًا أن الأرض سطحية، ويكشف لهم عن أن جماعة تدعى «السطحيين» ممن تتبنى هذا المنطق متسقة مع ذاتها لأنها لا تدعى شيئًا سوى هذه الحقيقة. وحين شارك فى جدال مع «يسرى» الصحفى المتأنق حول كروية الأرض، لم يقدم له الأخير الأدلة بل اكتفى بالسخرية.

لكن «نوح»، وهذا هو جوهر ما توصل إليه، قرر أن ينتقم منهم، ثأرًا لما فعلوه به وأيضًا لكى يلقنهم درسًا يوضح به أنه هو الذى تبين حقيقتهم. التقط العنف الباطنى الذى وجهوه إليه وأعاد استخدامه كما لو أنه أراد أن يضعهم أمام مرايا أنفسهم، وجهًا لوجه فى مواجهة وحل الزيف والعنف المجانى الذى يوجهونه للآخرين الذين يتشدقون بالدفاع عنهم وادعاء الوصاية عليهم. 

نص مكثف وذكى ويستحق قراءات عديدة. 

تاريخ الخبر: 2022-08-04 21:21:43
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

استطلاع صادم.. 41 % من الأمريكيين يتوقعون حربا أهلية ثانية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-05 21:23:58
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 56%

هيئة الشورى تعقد اجتماعها الثاني السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-05 21:24:01
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 53%

هيوستن تستعد للأسوأ بسبب فيضانات تكساس السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-05 21:23:59
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 68%

80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-05 21:24:00
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية