موت الفجر (قصة قصيرة)

1

لم ير أحد دماء، أو سمع صوت تأوه أو أنين، فقط غبار رمادي كثيف تجمع في الهواء في صورة سحابة صغيرة من تراب تلاشت بعد ثوانٍ.

ولكن الحاج طه الزرباوي أكد على أنه رأى عبدالمبين يقف تحت اللافتة العملاقة مباشرة لحظة سقوطها، وقبل أن يسمع الجميع صوت ارتطام اللافتة بالأرض، سمع هو صرخة تقول: لا. 

حتى إنه أول من نادى أن اللافتة سقطت على الرجل لكي يأتي الناس ويتجمعوا حول دكان عبدالمبين ليرفعوا اللافتة من فوقه، ولكنهم حين رفعوا اللافتة لم يجدوا شيئًا، أي شيء..فأين ذهب عبدالمبين بعد أن سقطت اللافتة على يافوخه؟

2

قبل سقوط اللافتة بساعة استيقظ عبدالمبين وجلس أمام الشباك المطل على المئذنة وفي يده كوب الشاي، تذكر أنه حتى الآن لم يستطع جمع مصاريف مدرسة مريم ابنته، مما سيضطره لسحب مبلغ آخر من البنك.

هدى زوجته رفضت أن تلحق البنت بمدارس حكومية، خوفًا من أن تتربى وسط أولاد البوابين والخفراء والشيالين، حتى في أيام الحضانة أدخلتها حضانة هي الأنظف على مستوى الحي بها أساتذة لا يتحدثون إلا الإنجليزية، حتى إن البنت حين طلبت موبايل كالذي مع زميلتها لتلعب عليه وتشاهد الكرتون، لم يتأخر، ادخر المبلغ وأتى لها بالموبايل، يخشى أن يكون عند ابنته الوحيدة أي عقدة نقص.

هو وافق على إلحاق البنت بمدارس الراهبات، بالرغم أنه على يقين أن مصاريف المدرسة ستشغل فكره ولياليه، وبالرغم من رفض حماه الحاد لإلحاق البنت بمدارس معلميها لا يدينون بالإسلام، ولكن في حقيقة الأمر أنه كان يخشى أن تتعرض البنت لما تعرض له هو في مدارس الحكومة، حين حاول مدرس العلوم الاعتداء عليه.

حين عرف أن هدى حامل، على عكس إرادته، حيث كان يريد تأجيل قرار الإنجاب إلى الأبد، تمنى لو كان المولود ذكرًا، ولكنه حين رأى مريم، رسم على وجهه الابتسامة التي اعتاد صنعها مع الأيام وهي ابتسامة الرضا بالمقسوم. ولم يقل..لا. ولكن كان مصرًا على أن يعيش هو وهدى ومريم حياة سعيدة، هو لم يتزوج هدى عن حب ولكنه أحبها بعد الزواج.

عاش حتى تخطى الثلاثين من عمره ومات أبواه، ولم يتزوج، لم يفكر في أن يقول لأنثى إنه يحبها، حتى لو أعجبته كان لا يستطيع نطق الكلمة، كان خجولًا، خجولًا للغاية. حتى في اللحظة التي شعر فيها بيد أستاذ العلوم تعبث بمؤخرته حين كان في الصف الثاني الإعدادي لم يستطع إصدار أي رد فعل، فقط جرى مبتعدًا وظل يبكي ويرفض الذهاب للمدرسة لأشهر.

رفضه الدائم للزواج جعل أمه وأباه يشكان في سلوكه حتى ماتا، هو نفسه كان لا يعلم شيئًا عن نفسه، وفي لحظات كثيرة خيل إليه أنه غير مرئي حتى لنفسه، وأنه لا يعرف عن نفسه ما يجب أن يعرفه.

ترك له أبوه كشكًا صغيرًا، يقولون عنه دكانًا، كان يبيع فيه السجائر والحلويات في حارة الصنادقية، ولكنه وبعد وفاة أبيه لم يرد أن يحل محله، فأغلق الدكان وقرر أن يعيش على عائد المبلغ القليل الذي تركه أبوه في البنك، وعلى ما تركته أمه من ذهب.

مشكلته الحقيقية أنه لا يستطيع أن يقول لا، منذ صغره كان لا يستطيع نطق هذه الكلمة المكونة من حرفين فقط، بل يجد صعوبة بالغة في التفوه بها، ولكن مع الأيام وحين بدأ الشك في وجوده من الأساس، وشعر بأنه محاصر بالعدم والوجود، ذهب لخالته لتبحث عن عروسة له، وبعد أسابيع جاءت له بهدى كزوجة قالت إنها بنت حلال، أبوها شيخ جامع يعرف ربنا.

تزوج من هدى لأنه أراد قتل الفراغ والوحدة اللذين يحاصرانه، في أيامهم الأولى ظنت هدى أنه أخرس، فهو بعد أن اعتاد الوحدة، والجلوس مع الجدران وخلق أشخاص من العدم، كان لا يستطيع التحدث مع أشخاص في الواقع، حتى إنه لم يدخل بها إلا بعد أن لاحظ نظرات حماته القاسية والتي تشك في رجولته. ربما نسى هو حينها الدخول بها.. لا يدري.

حتى حين علم أن هدى حامل بالرغم من عدم تلاقيهما إلا مرات معدودات، وبالرغم من أنه فعل كل شيء لكي لا ينجب، لأنه كان مؤمنًا أن العالم ليس بحاجة لمزيد من البؤساء الباحثين عن السعادة في الخراء، خيل إليه أنها ولدت مريم قبل مرور ثماني شهور على زواجهم لم يشك في شيء، فقط أضاف صفحة جديدة من الأسئلة في كتاب بعدد صفحات أيامه في الدنيا، مطمور في مكان ما لا يدركه، وكتم السؤال كما كتم قول.. لا.

***

وفي هذه اللحظة التي كان يجلس فيها أمام الشباك تذكر أنه بجانب مصاريف مدرسة مريم، هناك مصاريف فستان فرح لهدى التي تريد الذهاب بفستان جديد لفرح ابنة خالتها، والفستان يلزمه شراء حذاء جديد وحجاب جديد بلون الفستان أو مناسب معه، في مرة وبعد أن شعر بروح التمرد تباغته استطاع أن يقدم علامة استفهام.

سألها لماذا تحرص على ارتداء فساتين ضيقة تبرز صدرها وردفيها، في نفس اللحظة التي تحرص فيها على ارتداء حجاب بذات لون الفستان؟، لم تجب، ولم يقل هو..لا، أو يضيف علامة استفهام أخرى.

منذ زواجه، وربما منذ وجوده، أصر على أن يعيش على هذه الأرض بسعادة، حتى لو أصبحت السعادة تشترى بالمال سيتمرد هو دون أن يقول لا، وسيعيش سعيدًا، وبعد زواجه وارتفاع المصاريف أيقن أن السعادة تشترى بالمال، وشعر أن المال القليل الموضوع في البنك شارف على الانتهاء، وفكر في العمل، هو يستطيع القيادة، تعلم قيادة سيارات نصف النقل أثناء عمله القصير في شركة لنقل السجائر.

اشترى عربة نصف نقل بالقسط، ولكن قبل أن يسدد ثمن الأقساط باع العربية بأقل من سعرها، فالعربة لم تستطع توفير ما يريده من مال، عمل عليها لمدة ستة أشهر تقريبًا، كان يجلس في الشارع في انتظار من يريد نقله، بعض التجار كانوا يحاسبونه بالأسبوع ولكنه بعد مرور الأسبوع يكون قد نسى أي شخص سيأخذ منه الفلوس.

 ولكنه قرر بيع العربة حين طلب أمين الشرطة الذي يراضيه لكي يجعله يقف في الشارع، نقل جهاز ابنته، وبعد نقله لم يعطه الأمين شيئًا، بل سبه وكاد أن يصفعه، في اللحظة التي لم يستطع فيها هو قول.. لا.

بعد ثورة 2011 والأحداث التي شاهدها والفوضى كان يراقب كل شيء من خلال التليفزيون، كان يخشى أن تصل الفوضى إلى منزله، بعدها بسنوات وبعد زواجه فكر في شراء سيارة ملاكي والعمل عليها كتاكسي من خلال تطبيق اشتهر، ولكن أيضًا لم يستطع توفير المال اللازم لشراء السعادة.

 في النهاية قرر شراء توكتوك والعمل عليه بعد أن سمع أثناء جلوسه على المقهى أن هناك سائق توكتوك يجمع خمسمائة جنيه في اليوم، كان يهتم بالتوكتوك اهتمامًا شديدًا، كان لا يسير في الطرق المكسرة، يلمع الزجاج والمرايات كل ساعة، ملأ التوكتوك بالآيات القرآنية، بجانب تركيب جهاز صوتي يذيع القرآن بصوت مرتفع لجلب البركة، ولزيادة البركة وفي مؤخرة التوكتوك علق لوحة كبيرة، كبيرة جدًا ربما بعرض التوكتوك عليها صورة الشيخ الشعراوي محاصر ببعض الأقاويل عن الإيمان والرضا بالمقسوم، فوقها كتب "هو الله" بخط عريض، فعل ذلك  كما فعل في السيارة التي لم يستطع دفع أقساطها والسيارة الملاكي، ولكن التوكتوك سرق منه في مقابر باب الوزير على أيدي بلطجية كادوا أن يدفنوه حيًا، ولم يستطع هو أن يقول.. لا.

ولكن في النهاية استقر على أن يعود لدكان أبيه في الصنادقية ليفرشه ببعض الحلوى والسجائر، بل أضاف شيئًا جديدًا، وهو أنه جاء بماكينة صنع حلوى "الوافل" على أن تصنع له العجينة سيدة تعيش بالقرب من الدكان، ورأى أنه من الممكن أن يأتي السياح لشارع المعز إليه للشراء منه، ويدفعوا إليه بالدولار.

وقام بتعليق أنوار مفرحة على مدخل الدكان لتلفت أنظار المارين، وعلق لوحة كبيرة مكتوبًا عليها:

" بسم الله ما شاء الله.. اللهم أعط الناس ما يتمنون لي".

لافتة صرف عليها ما يقرب من خمسة آلاف جنيه صنعها من خشب ثقيل، عليها زخارف ونقوش عربية أصيلة.. ولكنه الآن وهو يجلس أمام الشباك يرشف من كوب الشاي بهدوء، ويدعوا الله أن يوفقه في أول يوم عمل له في المشروع الجديد، أبدًا لم يدرك أن هذه اللافتة هي من ستجعله يقول..لا.. قبل أن يتلاشى.

  • يوسف الشريف
تاريخ الخبر: 2022-08-11 15:21:18
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

انتهاء امتحانات آخر العام لصفوف النقل والشهادة الإعدادية 23 مايو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:22:12
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 40%

الصائغ يزف صهيب لعش الزوجية - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:23:46
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

مورو: هناك اشادة كبيرة بعمل حكومة اخنوش على الصعيد الدولي والوطني

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:24:51
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 60%

الجهني وخفاجي يحتفلان بزواج صالح - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:23:46
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 57%

5 أنشطة تزيد السعادة والفرح.. جرب تمارسها فى الويك إيند

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:22:05
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 45%

مواعيد القطارات المكيفة والروسى على خط "القاهرة - الإسكندرية"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:22:04
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 40%

مانشستر سيتي ضيفا ثقيلا على فولهام لحسم صدارة ترتيب الدورى الإنجليزى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 06:22:07
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية