صناعة الحرية (11).. أول رسالة من رسائل السجن


أول رسالة من رسائل السجن

وبعد أسبوع تقريبا من الاعتقال خطَّ السيد سقراط رسالة إلى صاحبه، يجيبه عن استقصائه عن أثر الرسالة في الأوساط الاجتماعية، وستكون هي أول رسالة من رسائل السجن التي يتلقاها الأستاذ (انظر نسخة منها مصورة عن المخطوطة ومرقونة في فصل الملاحق)، تحدث له فيها عن تعاطف الناس معه بقلوبهم وعجزهم على نصرته جهارا بسبب جو الخوف السائد آنذاك.

وأمضى الأستاذ “ثلاث سنوات ونصف في دهليز رطبٍ مظلمٍ مع أبي جعران”  دون محاكمة، قضى سنة ونصف سنة في مستشفى الأمراض الصدرية الموبوء بالأمراض الصدرية قصد إصابته بالمرض والتخلص منه بهدوء، ثم سنتين في مستشفى المجانين المتعفن بحي أكدال.

الأستاذ سقراط يدعو والأستاذ ياسين يؤمن على الدعاء

بعد يومين فقط من اعتقال صاحبهما، اعتُقل كل من الأستاذ العلوي والأستاذ الملاخ رحمهما الله، بسبب مشاركتهما في طبع الرسالة وتوزيعها، واقتيدا إلى مخفر إحدى كوميساريات مراكش قبل تنقيلهما إلى زنازين معتقل درب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء. وما أدراك ما معتقل درب مولاي الشريف؟ حيث تعرضا لقسوة التعذيب، – كغيرهما من المناضلين الذين وطأت أقدامهم ذلك السجن، وقد جيء بهم من كل مدن المغرب وخاصة منهم شباب الجامعات- ومكثا بسجنٍ لا تتوفر فيه أدنى شروط الحياة الآدمية خمسة عشر شهرا مكبلي الأيدي والأرجل، ولولا عناية الله بهما لكانا في خبر كان كما يحكي مدير مدرسة الجزولي رحمه الله .

ويذكر الأستاذ ذلك في مناسبات عديدة، منها قوله: “وكان لأخوي الكريمين سيدي محمد العلوي وسيدي أحمد الملاخ الفضل في طبع كتابي: “الإسلام أو الطوفان” ونشره، وقد أديا إثر ذلك على يد الشرطة ما قدر الله لهما من البلاء، فقد أوذيا أذى كثيرا يكفي أن تعلموا أنهما أمضيا خمسة عشر شهرا على الأرض، وفي البرد الشديد، يأكلان الخبز اليابس الملطخ بالبترول، والعدس الممزوج بالحصى، ولا حول ولا قوة إلا بالله” .

الأستاذان محمد العلوي وأحمد الملاخ اللذان ساعدا في طبع الرسالة.

ولا تزال ثقافة المغاربة تحتفظ بقسوة السجون وفظاعتها التي أقبرَ فيها السلاطينُ مئات المعارضين من العلماء والمثقفين، ومن تعاطف معهم، وكثير من الأبرياء المساكين التُّعساء، من قبيل سجن “قارا” الخطير، الذي لم يخرج منه سجينٌ دخله ، وسجن “أكدز“ ، وغيرها. قصد زرع الرعب في الشعب، ودفن إرادة الحرية والتحرر، حتى لا يجرؤ أحد على قول “لا“، وقد سُئل الأستاذ يوما لماذا هذا الموقف المخاصم من السلطة في المغرب لجماعة العدل والإحسان؟ فأجاب: “لأنها تقول: لا. والقوم لا يقبلون من يقول لا. ويقبلون فقط من يقول نعم نعم (بْنِي وِي وِي)” .

الشخص الحر لا يقبل الخضوع لإرادة ظالمة، بل ولا يسكت عن الظلم أيضا، يقول لالاند: “الإنسان الحُر هو الإنسان الذي لا يكون عبدا أو سجينا. الحرية هي حالة ذلك الذي يفعل ما يشاء وليس ما يريده شخصٌ آخر سواه؛ إنها غياب إكراه خارجي” . ومقاومة الإكراه الخارجي هو معنى من معاني الاقتحام والمغالبة لطباع الثقافة المنهزمة المخدرة، لذلك فالحرية عصية ولا تأتي دفعة واحدة، وإنما تُصنع بالمعاناة والمكابدة.

وها هو الرجل الذي كان يبحث عن الربانية الفردية في هدوء وسكينة يتحول في بضع سنوات إلى “صانع حريته”، إذ صار أكبر معارض سياسي في تاريخ المغرب المعاصر، دون أن يفقد ربانيته وسمته، ويتحمل تبعات الكلمة المسؤولة؛ صبرا على الأذى وتحملا لمشاق المراقبة والعقاب. قام يدعو إلى الله وسط الجموع والجمود والجحود، وبكل ما أوتي من إرادة وعزم وحكمة، لا يقيد إرادته حال ولا قال ولا مال ولا آل، وهو يعلم ما يمكن أن تلاقيه دعوته من اعتراض وتنقيص وتشويه، وكأنه يتمثل الحكمة اليوسفية قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مما يَدعُونَني إلَي} (يوسف:33). بل كان يتوقع جميع الاحتمالات بما فيها الإعدام، وقد استحضر في رسالته نماذج لعلماء نصحوا ملوكا فغضب الملوك واضطهدوا ناصحيهم. وإن كان هو لا يريد للملك “إلا ربح الدنيا والآخرة والارتقاء إلى الدرجات الفاخرة” بتعبير أبي الحسن اليوسي  في رسالته إلى السلطان المولى إسماعيل، ولا يريد لنفسه “سجنا ولا قيدا ولا سوطا” ، وإنما يريد حرية.

وفي مذهب الحرية يقول إليا أبو ماضي:

حُرٌّ وَمَذهَبُ كُلِّ حُرٍّ مَذهَبي        ما كُنتُ بِالغاوي وَلا الـمُتَعَصِّبِ

إِنّي لَأَغضَبُ لِلكَريمِ يَنوشُهُ        مَن دونَهُ وَأَلومُ مَن لَم يَغضَبِ

وَأُحِبُّ كُلَّ مُهَذَّبٍ وَلَو اَنَّهُ        خَصمي وَأَرحَمُ كُلَّ غَيرِ مُهَذَّبِ

يَأبى فُؤادي أَن يَميلَ إِلى الأَذى        حُبُّ الأَذِيَّةِ مِن طِباعِ العَقرَبِ

لي أَن أَرُدَّ مَساءَةً بِمَساءَةٍ        لَو أَنَّني أَرضى بِبَرقٍ خُلَّبِ

حَسبُ الـمُسيءِ شُعورُهُ وَمَقالُهُ        في سِرِّهِ يا لَيتَني لَم أُذنِبِ

الأستاذ في مكتبته المنزلية

 


[1] ياسين، عبد السلام. “ندي الطلبة”، مرجع سابق، ص 122.
[2] انظر: شريط فيديو بعنوان “سيرة الرجال”، مسجل بتاريخ (6 غشت 2004م) ومنشور في قناة عبد السلام ياسين الإلكترونية على يوتيوب، يوم 10 نونبر 2017م، وشوهد في 7 ماي 2020م، ابتداء من الدقيقة 50.
[3] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، مرجع سابق، ص 15
[4] هو سجنٌ كبير جدا بناه السلطان المولى إسماعيل على هيئة دهاليز ومتاهات معقدة تحت الأرض في مدينة مكناس، من أجل التخلص من جميع معارضيه، له بابٌ واحد ومن دخله لا تخرج منه إلا روحه، أما جسده فيتحلل في أرضه منتظرا أجسادا جديدة تلحق به.
[5] هو سجن سيء السمعة بأحد قصور الباشا الكلاوي بواحة درعة، قرب مدينة ورزازات، يعرف باسم “سجن الحد” (للحد من نفوذ القبائل ومقاومتها)، وهو عبارة عن قصبة لها أسوار كبيرة وأبراج عالية شُيدت بين 1948م و1953م، زُجَّ فيه بمئات الضحايا بين 1975م و1984م، كما تم دفن عشرات المعتقلين ليلا وسرا بمقبرة جوار السجن.
[6] انظر: الجزء الثاني من حوار مع الإمام في برنامج مراجعات (الحلقة الثالثة)، مرجع سابق، الدقيقة 39-40.
[7] لالاند، أندريه. موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، باريس، ط2، 2001م، 1/727.
[8] اليوسي، أبو الحسن. رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، مرجع سابق، 1/237
[9] وصف الإمامُ الشيخَ اليوسي بــ”العالم العبقري الأمازيغي الحسن اليوسي معلم الخير قوال الحق المجاهد الكبير، مجدد وقته وعابد زمانه كما وصفهُ علماء زمانه. شيخ الإسلام المجتهد الفذ الذي ضاهاه ابن الحاج بحجة الإسلام الغزالي. العالم العبقري الحسن اليوسي الذي سطعت شمسه على عصره، فشهد له بالإمامة القاصي والداني، واستجازه علماء المشرق والمغرب، وشبهوه في علمه وتقواه وصلاحه بأئمة التابعين رضي الله عنهم”، حوار مع صديق أمازيغي، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1997م، ص 215
[10] ياسين، عبد السلام. الإحسان، مرجع سابق، 2/80
[11] أبو ماضي، إليا. ديوان إليا أبو ماضي، دار العودة، بيروت، (د.ط)، 1996م، ص 145
تاريخ الخبر: 2022-08-22 15:20:13
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

مركز دراسات مصري : المغرب رائد إقليمي في مجال صناعة السيارات

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:06
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية