أعاد عالم ما بعد كورونا تنظيم الكثير من الأشياء في حياتنا، والتي من بينها طريقة أداء الأعمال، والقيام بالوظائف.

ووفقاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي اعتمدته الأمم المتحدة فإن الحق في العمل مكفول لكل شخص وفق شروط عادلة ومرضية مع حمايته من البطالة، كما أن لكل عامل الحق في مكافأة عادلة تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة. وله الحق في معيشة تضمن الصحة والرفاهية والحماية في حالة المرض والشيخوخة.

ولقد ظلت الوظيفة هي التي تضمن ذلك للشخص بعد دخوله الشيخوخة ووصوله سن التقاعد ـ والتي في الغالب تكون ما بين سن 60-65 عاماً- في معظم الدول. وكان التمسك بالوظيفة أمراً حيوياً في ظل الأرقام المخيفة للبطالة سواء على المستوى الدولي أو في دولنا العربية والتي بها أكثر من 14 مليون عاطل. هذا فضلاً عن التغيرات الاقتصادية المتسارعة التي يمر بها العالم.

استقلالية مالية

مع تصاعد الدعوات للاستقلالية المالية والوظيفية، أصبح الكثير من الموظفين يبتعدون عن الوظيفة، ويعطون أولوية لأشياء أخرى في حياتهم، مثل قضاء وقت أكثر مع أسرهم، وإنشاء مشاريع صغيرة خاصة بهم بعيداً عن استنزاف وضغوط العمل الوظيفي، وذلك من خلال اللجوء إلى التقاعد المبكر.

وللاستفادة من التقاعد المبكر توجد لوائح وقوانين تنظمه من دولة إلى أخرى حسب التشريعات الوطنية. ففي بعض البلدان لا يسمح للموظف بالتقاعد المبكر أو التقديم لما يعرف بالمعاش الاختياري، ما لم يقض أكثر من عشرين عاماً في وظيفته ويتجاوز سنه الخمسين عاماً.

وبناء على ذلك، أصبح حلم "التقاعد المبكر" يراود الكثيرين، حيث أوضح تقرير لBBC بأن هنالك حركة تعرف باسم حركة "الاستقلال المالي" أو "التقاعد المبكر"، والتي تعرف اختصاراً بـ"FIRE"، وتدعو إلى عدم التقاعد بناء على العمر، لكن بناء على مقدار المال الذي تدخره. فإذا نجحت خلال أول 10 أو 15 عاماً من حياتك المهنية في ادخار معظم راتبك، ربما تصبح قادراً على التقاعد مبكراً.

وقد جرى توجيه نقد إلى حركة "FIRE" بأنها حركة تضم ثلة من الأثرياء والمترفين، إذ إنه لا توجد وظيفة تجعلك توفر وتدخر ما يكفيك لبقية حياتك في حالة ترك العمل والنزول في "تقاعد مبكر"، إلا أن أعضاء الحركة يذكرون بأنهم يحدثون أنماطاً في تغيير حياتهم الاستهلاكي المفرط حتى يتمتعوا بباقي عمرهم، وتحقيق ما كانوا يحلمون به في شبابهم. وتدعو الحركة إلى إعادة النظر في علاقتك بالمال، ما يساعدك حسب الحركة لأن تصبح أكثر وعياً عندما يتعلق الأمر بإنفاق المال وقضاء الوقت.

تكفل معظم قوانين التقاعد أو المعاشات الحق في إعطاء الموظف كفالة مالية كبيرة نهاية الخدمة، مما يعتبر فرصة للموظفين الراغبين في التقاعد المبكر للاستفادة من هذه المكافأة، سواء في تحقيق حلم السفر أو استثمارها لدى مصرف آمن، أو شراء عقار واستئجاره، أو الدخول بها في مشروعه الحلم.

وحسب تقرير نشرته The Telegraph فإن الآلاف من الذين يبلغون سن الخمسين قد تركوا وظائفهم للأبد كرد فعل على تجربتهم خلال الإغلاق إبان فترة الكورونا، حيث أدركوا ببساطة بأن هنالك المزيد في الحياة يستحق المغامرة. بخاصة بعد أن فقد بعضهم أعزاء لديهم إبان فترة الجائحة. كما أن فترة الحجر المنزلي جعلتهم يفكرون في علاقتهم بالمال.

توضح كلير موفات، رئيسة تطوير الأعمال في شركة رويال لندن للمعاشات التقاعدية: " بأن فيروس كورونا كان تهديداً كبيراً للحياة والصحة، وهو ما جعل الكثيرين من الناس ينظرون بجدية إلى حياتهم، ويتساءلون عما إذا كانوا قد عاشوا الحياة التي خططوا لها حقاً".

كما أنه وفقاً للأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2021، انخفض عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و 70 عاماً في مكان العمل بمقدار نصف مليون مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. فمنذ بداية الوباء في مارس 2020، ارتفع عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و 64 عاماً والذين لا يعملون ولا يبحثون عن عمل بنحو 250000.

قبل التقدم إلى التقاعد المبكر

يعد ترك الوظيفة التي عمل الفرد فيها لفترة طويلة من العمر أمراً ليس بالهين، فالشعور بالملل وعدم القدرة على تحقيق الذات في المجال الذي ظل يعمل فيه الشخص قد تكون أسباب كافية للتقدم للتقاعد المبكر الاختياري، ولكن هناك أمور مهمة يجب الانتباه إليها قبل اتخاذ هذا القرار المصيري حسب الخبراء. مثل وضع خطة انتقالية، بحيث تكون واقعية يمكن تحقيقها، وكيفية قضاء الوقت أو الأعمال التي يرغب الشخص في القيام بها عقب "التقاعد المبكر".

وعلى الموظف كذلك قبل أن يغادر عمله أن يحصل على التأمين الصحي اللازم والذي يكفل له الحصول على الخدمات الصحية بقية عمره، بخاصة وأن سن "التقاعد المبكر" تبدأ بعد سن الخمسين. وهي السن التي يبدو فيها معظم الناس بحاجة إلى رعاية طبية أكثر من قبل.

كما يدعو الخبراء إلى الحصول على النصح والمشورة من خبير في الأمور المالية، والتي تساعد الشخص الذي ينوي ترك وظيفته في التعرف على وضعه المالي، وتتيح له معرفة الكيفية المثلى لاستلام مكافأة ما بعد الخدمة واستغلالها، وخلافه من الأمور المالية. فالمساعدة من شخص مختص تسهم في التقييم السليم والتخطيط الناجح.

خيار التقاعد المبكر قد يكون خياراً صعباً خاصة في الدول العربية، إذ إن الحصول على الوظائف ليس بالأمر الهين من الأساس، كما أن الكثير من الموظفين غير راضين عن وضعهم لعدة أسباب من أهمها اختيارهم الخاطئ للوظيفة نفسها من البداية. ففي تصريح لـTRTARABI يقول كاسترو عبد الله رئيس الاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين في لبنان "لا يوجد بكل أسف تخطيط، ونفتقد إلى التوجيه العملي. فنجد أنه في المراحل الثانوية بدلاً من أن يتجه الشباب نحو اختصاص معين، نجد أن الكل يريد أن يعمل طبيباً أو مهندساً".

TRT عربي - وكالات