التضلع من رجال التطلع


بقلم: سعيد البوري

رجال التطلع هم رجال العدل والإحسان، رجال الأمة الذين تطلعوا لمشارف الإحسان، وأشرفوا بأخلاقهم على اقتحام معمعان المجامع في دروب تنشد أخلاق العدل والحرية والإنصاف، قال الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “يـبدأ الانسجام بالتخلق الإيماني المتطلع إلى تحقيق العدل، وينشأ من التطلع هدف مشترك يوحد جهود العاملين في كل قطر حتى تقوم الدولة الإسلامية القطرية على الشورى. وفي الأفق المرسوم وحدة الأمة، والعـدلُ بين الجائع العاري في مجاهل أفريقيا وسبْخاتِ بنغلادش وبين الطاعمين الكاسين الـمُرَفَّهين في إمارات النفط”

وأطهر الرجال قلوبا وتأثيرا في الأنفس والآفاق أهل القرآن المتقربون إلى الله بالنفل بعد الفرض الذين قربهم الله من رحمته فحلاهم بالإحسان، “والإحسان سماع وقَبُول وتربية” ، ونالوا المرتبة العليا في الدّين بمراقبة الله في ظواهر معاملاتهم وأخلاقهم وآدابهم، وفي بواطن مقاصدهم وأسرار قلوبهم وصدق أحوالهم ومواجيدهم.

رجال التطلع الإحساني هم سُقاة القلوب وروَّاء أرضها من جفاف الجحود والشقاق والانكار والشِّجار. وللتطلع إلى مقاماتهم لابد لنا من صدق الطلب أو تكون لنا منه سابقة حسنى لنتمتع بمجالستهم، والنظر إليهم نظرة توقير وتعظيم، ونتشبع من محبتهم، ونتشرب من إيمانهم، ونسلك منهاجهم النبوي، فذاك هو ثمرة التّمَلِّي والتَّمَلُّؤ من حضرتهم بنظرة حُبٍّ في وجوههم كما في الحديث النيوي، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏”‏من نظر إلى أخيه نظرة مودة لم يكن في قلبه عليه إحنة ‏(‏حقد‏)‏ لم يطرف حتى يغفر له ما تقدم من ذنوبه‏”‌‏، [رواه الطبراني].

ومن مجالب التودد طلاقة الوجه والتبسم، وهو منافٍ للتكبُّر، ومن أخلاق النُّبوة، كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر والتبسم كما جاء في أحاديث الشمائل، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة”.  [رواه الترمذي].

وقد أشار الأستاذ محمد عبادي حفظه الله إلى أن التباعد الاضطراري “حرمنا من التملؤ والتملي في وجوه إخواننا كما كان يقول الإمام رحمه الله”، وها نحن لازلنا في اشتياق وحاجة ملحة للاستكثار من التزاور والتجالس والتحاب في الله.

ونقصد بالتضَلُّع تشبع المؤمن التائب المقبل على جماعة التائبين أول ما وضع رجله الأولى في طريق التربية الجامعة، “والتربية سماع وتشبه وتمثل وتشرب”

وورد التضلع في السنة النبوية الشريفة، في الحديث الذي صحَّحه السيوطي، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “آيةُ ما بيننا وبينَ المنافقينَ، أنَّهمْ لا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ”، فمن قلوب الرجال الصادقين الذين سبق ذكرهم المُنيف نرتوي ونمتلأ إيمانا ويقينا على التوالي والدوام، ونقدم على اقتحام العقبة مجاهدين جهاد زحف في الآفاق، وعاملين بعلمنا مجاهدة حثيثة للأنفس، حتى رفع الله مقامهم بصدق نياتهم، ووفقهم بفطانة عقولهم، ونباهة فكرهم، والتوفيق ما اجتمعت عليه آراؤهم، قال الإمام المجدد رحمه الله: “أما الصادقون فهم الذين وصفهم رب العزة سبحانه قائلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء[النساء: 59]. ويأتي الفقه في الدين والعلم بأحْكامه والتضلع من معارفه تغشاه سكينة الخشية من الله، وإلا كانت الشهادات والتحصيل وذلاقة اللسـان حجة على بعض الناس الذين نصروا الباطل وخذلوا الحق”

الإيمان الكامل يُتشرب من شعاب شريعة القرآن والنبوة التي ورثتها صدور المؤمنين متسلسلة موصولة بقلوب الربانيين إلى المربي الأعظم. وترى المؤمن الطالب وَجْه الله صدقا، يطلب الملازمة والاستزادة منهم، وهم يطلبون منه برهان الصدق ومهر الدوام، قال الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “تكون التوبة ذات الدلالة الأعم أدعى إلى السير الحثيث صعودا في عقبة الإيمان والإحسان إن تطهر العبد بماء التوبة يستفيضه من المنيبين، ورشف من ذلك الماء رشفات تذيقه حلاوة الإيمان فيستزيد ويستزيد حتى تنفر نفسه من المعصية، وحتى يكون الاستغفار واليقظة التامة في كل صغيرة وكبيرة من أعماله رفيقين دائمين”ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص 120..

والغاية أن تتشرب معاني الإيمان من قلوب أهل الله الأصفياء شربة تجعلها ذخرا للآخرة يوم تلقى الله سليم القلب تجاههم لا تظمأ بعدها أبدا، قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر]، كما كان يفعل الصحابة والسلف الصالح في دعائهم عند شرب ماء زمزم، “قال ابن عيينة: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أشربه لظمأ يوم القيامة”، [كنز العمال (14/54)]. وجاء في دعاء “بعض السلف أنه لما شرب زمزم، قال: “اللهم إنه قد جاء عن نبيك صلى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له، اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة”، [أخبار مكة للفاكهي (2/32)].

ولا يروي ظمأ هذه الأمة المحمدية من عطش يوم القيامة رجالا ونساء إلا الورود من حوض المصطفى المجتبى صلى الله عليه وسلم، قال الحق تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) [الكوثر]، هو نهر أعطاه الله لسيد الخلق يصب يوم القيامة في حوض آنيته عدد النجوم، عن سَهْل بْن سَعْدٍ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا..”. [رواه البخاري ومسلم].

اللهم أوردنا في الدنيا من حوض شعب الإيمان من ورثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معنىً، وفي الآخرة من حوضه الشريف واسقنا بكأسه مشربا رويا لا نظمأ بعدها أبدا حِسًّا.

 

.. يتبع

 


[1] ياسين عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص 656.
[2] ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص 81.
[3] ورد في كتاب “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد”.
[4] ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص 81.
[5] ياسين عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم ص 678.
تاريخ الخبر: 2022-08-31 03:20:23
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

المغرب يسجل رقما قياسيا في عدد السياح خلال أبريل الماضي

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:23:11
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 85%

انطلاق مسيرة في العاصمة الأردنية دعما لغزة وللتحذير من اجتيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:22:21
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

"منها عدم حرق الأعلام الإسرائيلية".. شروط صارمة لمظاهرة إسلا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:22:38
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 66%

إسرائيل: القبة الحديدية تعترض صاروخين أطلقا من رفح

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:22:33
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 52%

القوات الهندية تغادر جزر المالديف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:22:27
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 62%

جيش الاحتلال يعلن إصابة 12 من جنوده في غزة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-10 15:22:44
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية