في الآونة الأخيرة كثّفَت إسرائيل مساعيها الاستيطانية للسيطرة على القدس عبر مخطط تهويدي جديد يُعرَف بـ"الحدائق التوراتية"، بهدف قطع أوصال مدينة القدس المحتلة وخنقها وتهجير سكانها، وبدأت السلطات الإسرائيلية تنفيذ المشروع الذي تُقدَّر تكلفته بنحو 32 مليار شيكل، وسيستمر العمل في تنفيذه حتى عام 2030.

وانطلقت فكرة "الحدائق التوراتية" عام 1970، وتسارعت وتيرة تنفيذها في الأعوام الأخيرة التي وصفها باحثون مقدسيون بأنها من أخطر المشاريع التهويدية على مدينة القدس المحتلة.

تهويد منظَّم

عند النظر جغرافيّاً إلى هذه الحدائق، فهي أراض خضراء أو مفتوحة تنتشر بمدينة القدس بكثافة، وتُوسَّع وتُعدَّل مساحتها على حساب الأراضي المتبقية للمقدسيين أصحاب الأرض، وتمتدّ من بلدتَي سلوان وجبل المكبر جنوباً، والعيسوية وجبل المشارف شمالاً، ورأس العمود وبلدة الطور ومنطقة برك السلطان سليمان وماميلا غرباً، لذلك تُعتبر الحدائق التوراتية، وفق مراقبين، واحدة من أكثر الوسائل استخداماً من إسرائيل لنزع الأراضي من المقدسيين.

المرحلة الأولى من مشروع الحدائق تتضمّن إنشاء حزام في محيط البلدة القديمة والمسجد الأقصى، لعزل الأحياء العربية عنهما، وإحداث تغييرات نهائية في المعالم التاريخية والجغرافية وحتى السكانية بالمنطقة، حيث ستوسَّع مساحته من 17 ألفاً و500 دونم إلى 26 ألفاً و650 دونماً، وإضافة منطقة جبل المشارف وأجزاء من بلدة جبل الزيتون، والمنطقة المحيطة بالبلدة القديمة، بخاصة بلدة سلوان التي سيكون لها نصيب من مشاريع الطرد والتهويد.

أحد أزقة البلدة القديمة في القدس (Others)

كما أن بلدية إسرائيل بدأت العمل في أجزاء من منطقة القصور الأموية، وبعض المناطق التي سُوّيَت أراضيها ونُقلَت ملكيتها لليهود، كأنها "أراضي دولة"، في حين تتضمن المرحلة الثانية العمل على هدم الآثار في القصور الأموية وتحويلها إلى مسارات تلمودية، وتوسعة منطقة حائط البراق وتعديلها لتناسب الروايات اليهودية، وتطوير مركز الزوار قرب باب المغاربة، وزيادة العاملين والميزانيات في هذه المراكز الملاصقة للمسجد الأقصى.

تغيير وجه الأرض

وللوقوف على خطورة الحدائق التلمودية، يؤكّد الباحث في شؤون القدس الدكتور جمال عمرو من القدس، أن "ما يحدث يُعتبر من أبشع صور تهويد الأرض"، مضيفاً: "المعركة مع إسرائيل تقوم على الأرض، فهي المحور الأساسي لكل المشاريع التهويدية".

وكشف عمرو خلال حديث خاص لموقع TRT عربي عن أهمّ المخاطر الناجمة عن هذه الحدائق التي تكمن في وضع اليد على ملكية الأراضي، مضيفاً: "عندما تنزع إسرائيل الملكية وتحوّلها إلى حدائق تلمودية أو توراتية، تكون استولت عليها وسجّلَتها وفق أملاك الدولة، وبذلك لا يستطيع أحد من المقدسيين الاستفادة منها".

وأكّد في الوقت ذاته أن إسرائيل تسعى لتغيير النمط التاريخي للأراضي كافة المحيطة بالأقصى والبلدة القديمة التي تتمتع بمكانة تاريخية ووجدانية وسمة حضارية، قائلاً: "إسرائيل تغيّر وجه الأرض في القدس بوضع بصمة يهودية تلمودية مصطنَعة وإدخال عناصر معمارية غريبة عن التاريخ الفلسطيني".

حسب الباحث المقدسي تدمّر إسرائيل القصور الأموية والعباسية الواقعة في جنوب الأقصى وعند حائط البراق لإقامة مشروعه "التطويري المزعوم"، مضيفاً: "الهدف الإسرائيلي تغيير الشكل والمضمون في المدينة بوضع قواعد لمبانٍ عملاقة تحمل رموزاً ومعالم إسرائيلية".

وعن تداعيات ذلك يرى عمرو أن ما يحدث "سيحوّل الأراضي الفلسطينية إلى ثكنة عسكرية يصعب دخولها"، وأضاف: "ستقدم تسهيلات للمستوطنين المستجلَبين لهذه الحدائق"، مؤكداً أن "المطلوب هو طرد الفلسطينيين من المكان وتسخيره لخدمة المستوطنين".

حائط البراق في مدينة القدس (Others)

ويشمل زيادة عدد الأدِلّاء والمرشدين اليهود، والإكمال السريع لمشروع "المدرج الكهربائي" الذي يصل بين حارة الشرف وساحة البراق، وإتمام العمل في مبنى "بيت شتراوس" التهويدي، واستبدال جسر المغاربة وتوسعة باب المغاربة، وكنيس يُسمَّى "خيمة إسحاق" قرب الأقصى.

ووفقاً لتقارير فلسطينية فإن الهدف من إقامة الحدائق التوراتية التلمودية هو زيادة هدم منازل الفلسطينيين وعدم السماح لهم بالبناء في المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى، فضلاً عن تهجير السكان وعرقلة التطور الاقتصادي والإنساني وتضييق الخناق على المقدسيين بالمنطقة.

ذرائع دينية

هنا يرى الباحث المقدسي الدكتور مصطفى أبو صوي من القدس أنه "سيُغيَّر المشهد كاملاً في المدينة المحتلة بعد تنفيذ المشروع"، مؤكداً أن "هذه المشاريع تهدّد عشرات البيوت في القدس بالهدم تحت حجج وذرائع دينية لتحويلها إلى بؤرو سياحية أشبه بالمنتجع بلا نظر إلى بعدها الديني والتاريخي".

ويوضح أبو صوي أن إسرائيل تسعى من خلال المخطط الحالي لإفراغ القدس من الوجود الفلسطيني، مضيفاً: "في المقابل نجد زيادة العمل في الحفريات والأنفاق باتجاه البلدة القديمة والأقصى، وتقليل مساحات القبور الإسلامية وزيادة اليهودية".

جدير بالذكر أن الحدائق التلمودية ليست المشروع الوحيد الذي تنفذه السلطات الإسرائيلية، فعلى بعد 100 متر من السور الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك تسارع جمعية "العاد" الاستيطانية في أعمالها منذ العام الماضي لتنفيذ أضخم مشروع استيطاني، يُدعى "مجمع كيدم - حوض البلدة القديمة"، تحديداً عند مدخل حي وادي حلوة في بلدة سلوان.

ويرى مراقبون أنه حسب مخطط "العاد"، يُعتبر مشروع "كيدم" من أضخم وأخطر ثلاثة مشاريع إسرائيلية تهويدية في مدينة القدس، إضافة إلى "القطار الهوائي" و"الكنيس اليهودي" في ساحة البراق.

في ذات السياق يؤكد المحلل السياسي الفلسطيني إبراهيم المدهون أن مثل هذه المشاريع بمثابة استفزاز متعمد لمشاعر المسلمين والروح الوطنية الفلسطينية.

كما حذّر المدهون في حديث مع TRT عربي من استمرارية هذه المشاريع التهويدية التي سيعقبها ردود فعل فلسطينية وعربية وإنسانية، مؤكداً أنها عدوان على المساجد والأماكن المقدَّسة للمسلمين.

ولفت المدهون إلى "ضرورة اضطلاع السلطة الفلسطينية بمسؤولياتها، ولفْت الأنظار إلى المخاطر التي يتعرض لها المسجد الاقصى، وإحياء القضية في المحافل الدولية"، مطالباً "فصائل المقاومة الفلسطينية باتخاذ مواقف واضحة من هذه المشاريع ووضعها على طاولة البحث وتقدير الموقف".



TRT عربي