في جنازة رسمية مهيبة هي الأولى التي تشهدها العاصمة لندن منذ تشييع رئيس الوزراء ويسنتون تشرشل عام 1965، ودعالبريطانيون وملوك وزعماء من جميع أنحاء العالم الملكة إليزابيث الثانية، بعد مرور سبعة عقود على توليها عرش المملكة المتحدة واحتفالها باليوبيل البلاتيني في 2 يونيو الماضي.

وقد استيقظ الالاف من البريطانيين فجريوم الجنازة الذي اعتبرته الحكومة اجازة رسمية بحثاً عن أفضل الأماكن بالقرب من قصر باكنجهام وكاتدرائية ويستمنستر، وكانت ابنتي واحدة من هؤلاء الذين استيقظوا مبكراً قبل السادسة صباحاً، لتحظى بمكان بالقرب من القصر الملكي معتبرة انها لحظة تاريخية، وهي تريد أن تكن جزءا من التاريخ، على حد قولها، لتروي لاولادها تفاصيل الحدث وأنها كانت احد شهود العيان فيه.

الوفاة في اسكتلندا والجنازة في لندن:

رغم الانهيار الذي حدث لصحتها بشكل كبير اقلق الفريق الطبي المشرف على علاجها، ظلت الملكة اليزابيث الثانية تمارس مهامها الملكية حتى النفس الاخير، حيث التقت يوم الثلاثاء 6 سبتمبر في قلعة بالمورال في اسكتلندا برئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون لقبول استقالته، ورئيسة الوزراء الجديدة ليز تراسلتكليفها بتشكيل الحكومة ورئاسة الوزراء. وبعدها مباشرة صدربيان عن القصر الملكي بأن أطباء الملكة قلقون بشأن صحتها ووضعوها تحت الرعاية الطبي، واستدعوا افراد اسرتها لالقاء نظرة الوداع عليها قبل رحيلها.

وتطورت الأمور الصحية بشكل كبير وملحوظ، ولم يستطع الأطباء عمل شيء، حيث اعلن قصر باكنجهام في بيان مقتضب يوم الخميس 8 سبتمبر أن الملكة توفيت بسلام في قلعة بالمورال باسكتلندا.

وظل الجثمان هناك لمدة خمسة أيام لاتاحة الفرصة لشعب اسكلندا الذي احتشد الالاف منهم لالقاء نظرة الوداع الاخيرة على جثمان الملكة قبل انتقاله الى العاصمة لندن. وبعد ذلك حملته طائرة من مطار ادنبرة عاصمة اسكتلندا يوم الثلاثاء 13 سبتمبرالى مطار “نورثهولت” التابع لسلاح الجو الملكي البريطاني، غرب لندن ترافقه ابنتها الأميرة آن.

هبطت الطائرة في مطار نورثهولت، بعد حوالي أربعين دقيقة، وكانت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، ووزير الدفاع بن والاس مع مجموعة من العسكريين والمدنيين في استقبال الجثمان لدى وصوله. وفي الطريق من المطار الى قصر باكنجهام الملكيوسط لندن، احتشد الالاف من الاشخاص على جانبي الطريق،كباراً وصغارا، لمشاهدة هذا الموكب المهيب الذي كانت تسير أمامه الدراجات النارية، وخلفه سيارات الشرطة. واتيحت لنا الفرصة لمشاهدة هذا الموكب لمروره بالقرب من منطقة سكني في لندن. وعند مرور الموكب انحنى الجميع برؤوسهم احتراما واكراماً لجثمان الملكة اليزابيث.

ثم توجه الجثمان الى قصر باكنجهام لتقضي الملكة ليلة الوداع الاخير في القصر الشهير بشرفته الملكية التي اطلت منها على جمهور المحتشدين لتحيتها في مناسات عديدة، كما شاهد هذا القصر العديد من الاجتماعات الرسمية والعائلية واستلام اوراق السفراء الجدد المعتمدين لدى البلاط الملكي.

وكان في استقبال الجثمان خارج القصر الالاف من الاشخاص الذين اصطفوا على جانبي الطريق المؤدي للقصر والمنطقة المجاورة له، فيما كان الملك تشارلز الثالث وابناء الملكة واحفادها وافراد العائلة المالكة يستقبلون الجثمان داخل القصر.

استقبال قادة الدول وبيان شكرللمعزين:

استقبل الملك تشارلز الثالث مساء الاحد، عشية جنازة الملكة اليزابيث، في قصر باكنغهام قادة الدول الذين جاءوا لحضور الجنازة وتقديم واجب العزاء. وأصدر الملك بياناً شكر فيه البريطانيين وشعوب العالم على رسائل التعزية، جاء فيه: “على مدى الأيام العشرة الماضية، تأثرت أنا وزوجتي بشدة برسائلالدعم العديدة وبالتعزية التي تلقيناها من شعب هذا البلد ومن جميع أنحاء العالم”.

وأضاف: “في لندن وإدنبره وهيلزبورو وكارديف، تأثرنا بدرجة لا توصف بكل من تحمل عناء المجيء والتعبير عن تقديره للجهود التي بذلتها والدتي العزيزة، الملكة الراحلة، طوال حياتها”. وأكمل يقول: “بينما نستعد جميعاً لوداعها الأخير، أردت ببساطة أن أغتنم هذه الفرصة لأقول شكراً لكل هؤلاء الأشخاص الذين لا حصر لهم والذين قدموا مثل هذا الدعم والراحة لعائلتي ولي في هذا الوقت الحزين”.

نظرة الوداع الأخيرة:

في اليوم التالي انتقل الجثمان في موكب مهيب من قصر باكنجهام الى قاعة داخل قصر ويستمنستر بحضور الملك تشارلز الثالث وأفراد العائلة المالكة، لاتاحة الفرصة للجمهور لألقاء نظرة الوداع الاخيرة على نعش الملكة اليزابيث المسجي داخل صندوقمصنوع من خشب البلوط، وملفوفاً بعلم بريطانيا، وموضوعا فوقهباقة كبيرة من الزهور والتاج والصولجان الملكي، وتحيطه الشموع المضيئة من كل ناحية.

وقد توافد مئات الالاف من الناس على القاعة التي ظلت مفتوحة طوال 24 ساعة لمدة أربعة أيام كاملة حتى مساء الأحد عشية يوم الجنازة، حيث اصطف الناس في طوابير طويلة طوال الليل والنهار، وكانت مدة الانتظار في الطوابير تصل الى 12 ساعة وأكثر، لالقاء نظرة الوداع الاخيرة على جثمان الملكة تعبيرا عن احترامهم وتقديرهم لها.

ممثل الكنيسة القبطية في جنازة القرن:

بعد حداد وطني اشترك فيه عامة الشعب من جميع أنحاء البلاد،امتد 10 أيام القى فيها مئات الالاف من الناس نظرة الوداع الاخيرة على ملكتهم المحبوبة اليزابيث الثانية، انتقل الجثمان على عربة تابعة للبحرية الملكية يجرها فريق من 142 من جنود البحرية الملكية الى كاتدرائية وستمنستر للصلاة عليه، وسار خلف النعش الملك تشارلز الثالث واخوته الاميرة آن والأمير اندرو والامير ادوارد، وسار خلفهم ولي العهد أمير ويلز الامير ويليام، وبجانبه شقيقه الامير هاري وبقية أفراد العائلة المالكة. وكانت تعزف في الموكب فرقة موسيقية عسكرية ايرلندية واخرى اسكتلندية بالاضافة الى افراد من سلاح الجو الملكي.

وحضر صلاة الجناز في الكاتدرائية الفي شخص، بينهم 500 من رؤساء وملوك وملكات الدول وحشد كبير من السياسيين. كما وجهت الدعوة الى رؤساء الطوائف المسيحية، ومن بينهم نيافة الانبا انجيلوس اسقف لندن ممثلا عن الكنيسة القبطية الارثوذكسية وقداسة البابا تاوضروس الثاني، حيث تربطه علاقة وثيقة بالقصر الملكي والتقى بالملكة والامير تشارلز مرات عديدة في مناسبات مختلفة.

وكاتدرائية ويستمنستر لها تاريخ عريق، حيث تعمدت فيها الملكة اليزابيث ونالت التثبيت (الميرون) وتزوجت فيها عام 1947، وتوجت ملكة في نفس المكان عام 1953. وانتقلت وتمت الصلاة على جثمانها في نفس المكان. ومن بين الترانيم المفضلة للملكة اليزابيث ترنيمة “الرب راعي”، التي انشدت في جنازة والدها الملك جورج السادس، وفي حفل زفافها على الامير فيليب، وفي جنازتها.

وفي كلمته في مراسم التجنيز قال رئيس اساقفة كانتربري، جاستن ويلبي “ان النمط الذي تتميز به سير العديد من الزعماء هو التعظيم في حياته والنسيان بعد موتهم. اما بالنسبة لمن يخدمون الرب، سواء كانوا مشهورين ويحظون بالاحترام او غير معروفين ومجهولين، فان الموت هو الباب المؤدي للمجد”.

وذكر أن الملكة قالت اثناء عيد ميلادها الـ21 انها ستكرس حياتها لخدمة البلاد والكومنول، لتلتزم بذلك الوعد الذي نادرا ما يلتزم به من يقطعه على نفسه”.

ولوحظ في الجنازة اشتراك الأمير جورج (9 سنوات) نجل ولي العهد الامير ويليام، وشقيقته الصغرى الأميرة شارلوت (7 سنوات). وفكرت الاميرة كيت والامير ويليام بشأن امكانية مشاركة اطفالهما في جنازة جدة والدهما، وخلصا الى أن الامير جورج والاميرة شارلوت قادران على توديع الملكة، وهم في مرحلة عمرية تسمح لهما بتفهم طبيعة الموت والعزاء.

مشهد جنائزي مهيب:

انتقل الجثمان بعد ذلك من كاتدرائية ويستمنستر الى مقره الاخير في قلعة وندسور، حيث سار الموكب بعد خروجه من ويستمنستر في شوارع العاصمة لندن مخترقاً حديقة الهايد بارك سيراً على الأقدام، الى أن وصل الى “قوس الرخام Marble Arch” بجوار تمثال دوق ويلنجتون. ومن هناك نقل الجثمان الى سيارة حملته الى قلعة ويندسور حيث تمت الصلاة عليه في كاتدرائية سانت جورج، لتدفن بعدها بجوار زوجها الامير فيليب ووالدها الملك جورج السادس ووالدتها وشقيقتها.

وفي كاتدرائية وندسور رفع المسؤول عن المجوهرات الملكية التاج والكرة الملكية والصولجان من أعلى التابوت، ليفصل الملكة عن تاجها للمرة الأخيرة، وسلمهم لعميد الكاتدرائية الذي وضعهم على المذبح تمهيدا لنقلهم الى مكان الاحتفاظ بهم لحين حلول موعد تتويج الملك شارلز في احتفال رسمي كبير.

وفي مشهد جنائزي مهيب، وبعد ترتيل الترنيمة الأخيرة في كاتدرائية وندسور، وضع الملك تشارلز الثالث علم حراس غرينادير على نعش الملكة. وحراس غرينادير هم أكبر الحراس المشاة الذين يؤدون واجبات احتفالية للملك. وأخذ جثمان الملكة ينزل في القبو الملكي رويدا رويداً الى أن اختفى تماماً عن الأعين وسط معزوفة جنائزية عزفها عازف القرب الملكي واختتمت مراسم قداس مواراة الجثمان بعزف النشيد الوطني

وبدفن الملكة تنتهي فترة الحداد في بريطانيا، وتنتهي الحقبة الاليزابيثية، بينما يستمر الحداد في الاسرة المالكة لمدة سبعة أيام اخرى.