دائماً ما كانت المشاركة في التنمية سبيلاً إلى الوجود الحقيقي المؤثر. وقد كان الانسحاب المصري من مشروعات التنمية في إفريقيا منتصف تسعينيات القرن الماضي، عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق مبارك في أديس أبابا، نذيرَ خطر على المصالح المصرية في امتدادها الإفريقي، باعتباره أمناً قومياً يرتبط برافد الحياة الأول لها، متمثلاً في نهر النيل.

من هنا تأتي العودة المصرية إلى إفريقيا عبر دبلوماسية البناء والمشاركة في مشاريع التنمية، خصوصاً في دول حوض النيل، كمستهدف استراتيجي ذي أولوية، لذا ظهرت شركات بناء مصرية كبرى في كادر البناء ومشروعات البنى التحتية بالقارة السمراء، بخاصة في دول حوض النيل، منها تنزانيا، التي تبني فيها الشركات المصرية سدّاً، قد يكون بمثابة عودة للقاهرة إلى الملعب الإفريقي.

حلول إفريقية لمشكلات إفريقيا

يُعَدّ هذا مبدأً مصرياً أُرسيَ في أثناء رئاسة القاهرة الاتحاد الإفريقي، انطلاقاً من مبدأ تعزيز تعاونها مع دول القارة، عبر مشروعات تنموية في جنوب السودان وأوغندا وتنزانيا، تحديداً في مجال مشروعات المياه والطاقة.

بصمة الشراكة المصرية بدأت في جنوب السودان عبر منحة عملت على تأسيس محطتَي قياس المناسيب والتصرفات بمدينة منجلا ونيمولي على بحر الجبل، تمهيداً لتشغيلها، فضلاً عن إنشاء 6 محطات مياه شرب جوفية في 5 فبراير/شباط 2020، كان قد جرى التعاقد عليها مع شركة مصرية متخصصة عام 2019، إذ انتهى المسح الهيدروجيولوجي والجيوفيزيقي وإعداد الدراسات اللازمة، وبدأ حفر البئر الأولى في المستشفى القبطي بجوبا، حسب تقرير لوزارة الري المصرية في إبريل/نيسان الماضي.

وفي أوغندا أعلنت الحكومة المصرية عام 2018 عن اتفاق لإنشاء 5 سدود، ودُشّن هذا المشروع بسعة لا تزيد على 10 آلاف متر مكعب للسدود الخمسة، ويطلق عليها "خزانات الأدوية"، وذلك أيضاً بمنحة مصرية قيمتها 9 ملايين دولار، كما أنهت مصر المرحلة الأولى من مشروع درء مخاطر الفيضان بمقاطعة كسيسي -غرب أوغندا- وجار تحضير مرحلته الثانية، الهادفة إلى حماية المقاطعة من أخطار الفيضان وحماية الممتلكات والمواطنين.

وفي نوفمبر 2018 أكدت وزارة الري المصرية، على هامش حضور وفدها فاعليات مؤتمر الاقتصاد الأزرق المستدام بكينيا، بدء تفعيل مذكرة تفاهم موقعة بين البلدين عام 2016 لتنفيذ مشروعات إدارة وتطوير الموارد المائية بكينيا لتوفير مياه الشرب ورفع القدرات الفنية والمهارية للكوادر الفنية الكينية.

وتنفيذاً للاتفاق، أُنشئَت محطات رصد في مجمعات الأمطار الرئيسية في كينيا، وهي بحيرات فيكتوريا وكيوجا وألبرت، وحظي المشروع بتمويل دولي، كما حُفرَت 180 بئراً جوفية في كينيا.

أما في تنزانيا، فقد حُفرَت 60 بئراً جوفية في مقاطعات تنزانيا المختلفة، التي تشكو ندرة المياه، واستفاد من هذه الآبار أكثر من 120 ألف تنزاني في المتوسط للبئر الواحدة.

الشركات المصرية وسدّ روفيجي بتنزانيا

كذلك تعاقدت شركة "المقاولون العرب" المصرية على تصميم وتشييد سد ومحطة "روفيجي" للكهرباء بمنطقة ستيجلر جورج بكلفة 3.6 مليار دولار، وكان من المفترض أن يستغرق المشروع ثلاثة أعوام ليكون افتتاحه عام 2021، لكن الأمر تأخر لعامين آخرين حسبما أعلنت تنزانيا.

ويُعَدّ هذا المشروع أحد أهم المشروعات الحيوية لتنزانيا، إذ يستهدف السد توليد طاقة إجمالية 2100 ميغاوات، عبر خط كهربائي عالي الجهد لإدماجها في شبكة الكهرباء الوطنية.

ويصل ارتفاع السد التنزاني إلى 134 متراً، وتخزين البحيرة الخاصة به يصل إلى 34 مليار متر مكعب من المياه، وتغطي مساحة 1350 كيلومتراً مربعاً بطول 100 كم.

كذلك تُنشئ مصر مركزاً للتنبؤ بالأمطار والتغيرات المناخية في إطار التعاون الثنائي مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، لتعظيم الإدارة المتكاملة للموارد المائية، علاوة على تدريب 437 متدرباً إفريقياً عبر أكثر من 35 دورة في مجال الإدارة على المستوى الحقلي وتصميم وصيانة السدود.

الدكتورة أماني الطويل، مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة في الشؤون الإفريقية، تقول لـTRT عربي إن المشاركة المصرية في مشاريع التنمية بدول إفريقيا عموماً تمثّل عودة مهمة لمصر نحو امتدادها الإفريقي، ولكن الأمر "ليس بالدرجة المطلوبة"، حسب قولها، مضيفة أن "على الشركات المصرية ورجال الأعمال المصريين دخول مجالات التنمية كافة في إفريقيا"، ولفتت إلى أن بناء شركة مصرية سدّاً في تنزانيا "مؤشر على تغير استراتيجية مصر إزاء إفريقيا وتنوُّع أدواتها وآلياتها، وهي خطوة لا نستطيع تسميتها (دبلوماسية سدود متكاملة)، لأن هذا هو السد الوحيد الذي شُرعَ في تنفيذه بدولة إفريقية من جانب مصر، لكن القاهرة تعاون دولاً بالقارَّة في أمور خاصة بتقنيات الري والزراعة".

ونفت الطويل في حديثها مع TRT عربي فكرة "محاصرة إثيوبيا" عبر المشاركة في مشاريع التنمية بقارة إفريقيا، وأكدت أن حصر هذا التوجه المصري في محاصرة بلد آخَر يُعَدّ "تقزيماً لاستراتيجية مصر في قارتها"، لأن إفريقيا كانت ولا تزال موضوعاً مهمّاً لمصر على المستوى الاستراتيجي "بغضّ النظر عن إثيوبيا وسدّها"، حسب قولها.

موضوع سد النهضة بالتأكيد له أهمية مركزية في استراتيجية مصر، حسب خبيرة الشؤون الإفريقية، لكن في النهاية لمصر مصالح أخرى، منها "تحجيم التهديدات الأمنية المتمثلة في جماعات الإرهاب، فضلاً عن أمن البحر الأحمر، والاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى سدّ النهضة بالطبع"، وتابعت: "هذه الأهداف دفعت مصر إلى اتخاذ إجراءات استراتيجية تتعلق بإعادة تموضعها العسكري عبر توقيع اتفاقات أمنية مع بعض دول القارة، بخاصة في حوض النيل، فضلاً عن تمركزات عسكرية في مدخل البحر الأحمر وخلافه".

واختتمت الطويل كلامها لـTRT عربي بقولها: "دعنا نقُل إنه ليس مطلوباً لأي دولة أن تحجّم دولة أخرى، لكن المطلوب تكوين علاقات ثنائية مستقرة، تتحكم فيها أدوات متنوعة تضمن الاستقرار الإقليمي ومصالح كلا البلدين. بالتالي ليس من أهداف مصر في تحرُّكها التنموي بدول إفريقية محاصرة أحد، بل حماية المصالح القومية لمصر أولاً وأخيراً".

حضور مصري بعد تهاون سنوات

"الدور المصري في إفريقيا يزداد حضوراً منذ عام 2014، إذ تنبّهت القيادة المصرية للخطر الكبير في التهاون في أمن مصر القومي بإفريقيا"، حسبما قال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية المصري، في حديثه مع TRT عربي، مضيفاً أن إفريقيا "لا تمثّل لمصر نهر النيل أو الأمن المائي فقط، بل أمور أمنية أخرى وموضوعات تتعلق بثقل مصر الدولي، مبنيَّة على ثقلها في قارتها".

وتابع بأن تنفيذ مصر سدّاً في تنزانيا "خطوة جيدة في إطار دعم مصر للمشروعات التنموية لشركائها في إفريقيا"، لافتاً إلى العلاقات القوية بين مصر وتنزانيا، إذ نفّذَت وزارة الري المصرية عديداً من المشروعات التنموية هناك.

وأوضح شراقي أن "سد ستيجلر يقع على نهر روفيجي، وهو نهر داخلي في تنزانيا طوله 600 كم وإيراده السنوي يتراوح بين 10 مليارات و58 مليار متر مكعب، بمتوسط نحو 20 مليار متر مكعب سنويّاً"، وأكد أن هذا السد "ليس له تأثير سلبي في أي دولة مجاورة لتنزانيا، وبالتالي فهو يمثل تنمية آمنة بلا أضرار، بعكس سدّ النهضة الذي يؤثّر بشدة في حصة المياه التاريخية لمصر".

وأضاف شراقي أن تداعيات فيروس كورونا هي التي أخّرت عملية تحويل مجرى النهر لإنجاز عمليات بناء السد وتركيب التوربينات، بعد أن كان من المخطَّط أن يكتمل بناؤه عام 2022.

وأشار شراقي إلى أن مصر بحاجة إلى دعم دول حوض النيل لتحقيق رؤيتها، لافتاً إلى أن تحركات القاهرة دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً في إفريقيا حالياً "مشروعة وفي إطار الحفاظ على الأمن القومي المصري من أي تهديد محتمَل، فضلاً عن بحث جميع دول العالم عن تعزيز مصالحها وحماية أمنها".

وأكد أن مصر فقدت لسنوات طويلة ذراع قوتها الناعمة في إفريقيا بعد أن كانت سيدة القارة في ستينيات القرن الماضي، لكنها عبر استراتيجية متكاملة تتحرك بـ"دبلوماسية البطء" لحلحلة مواقف دول القارة من دعم إثيوبيا في ملف سدّ النهضة إلى "التعامل مع الأمر من حيث الخطورة التي يمثلها، ليس فقط باعتباره مشروعاً تنموياً كما تروّج أديس أبابا، لأن مصر لا ترفض أي تحرُّك تنموي لدول القارة، بدليل مشاركتها عبر شركاتها الكبرى في بناء سدود ومشاريع مهمة في إفريقيا، لكن أن تكون تنمية البلد على حساب أمن واستقرار بلدان أخرى، فهذا يهدّد إقليماً كاملاً لا مصر أو السودان فقط".

يشار إلى أن شركتَي "المقاولون العرب" و"السويدي إليكتريك" المصريتين هما المسؤولتان عن بناء سدّ روفيجي في تنزانيا، إذ أعلنت الحكومة المصرية عبر وزير الإسكان في 18 أغسطس/آب 2021، بدء تركيب أول أجزاء التوربينة الأولى، التي ستولّد الطاقة عبر مياه السد، فيما يبلغ إجمالي عدد التوربينات الخاصة بالسد 9 توربينات كافية لتوليد 2100 ميغاوات من الكهرباء.



TRT عربي