قهوة مؤمن بندي «يا خسارة قرايتي».. عطبرة حلم الثورة والقطارات
ياسر عرمان
«1»
إذا كانت الثورة بذرة فإن عطبرة حديقة من حدائقها، وإذا ما كانت ثمة من لخص خيبة أحلام الشباب ووجع العطالة فهو مؤمن بندي الذي أطلق على قهوة أقامها على ناصية الطريق في مدينة عطبرة وعند أعتاب كبري الحرية (يا خسارة قرايتي).
عدت إلى عطبرة بعد غياب سنوات ورأيت المدينة تشيخ وهي في ريعان الشباب وفي شوارع المدينة التقيت بالغائبين العائدين، قرشي الطيب وعبد الوهاب حسن مالك وحسن أحمد دياب وعبد العزيز إدريس وفؤاد أحمد الطالب الشهيد الذي شكل لقاء الطبقة والطلبة، وفي ناصية الطريق رأيت سليمان موسى قائد هيئة شؤون العمال في الأربعينات الذي بعد اعتقاله أرجعته السلطات بطائرة فتغنى جمهور الأنادي (الطائرتو جات محروسة يسلم لي سليمان موسى).
وشاهدت الحاجة سبيلة فضل صاحبة الإنداية التي تبرعت لبناء دار النقابة بشف من الذهب الخالص واسمها موجود في قائمة الشرف في بناء دار نقابة العمال فكما ساهمت في تشييد دار النقابة ساهمت أيضاً في تشييد الثورات، وحينما دخل العمال في إضرابات طويلة تضامن أصحاب المنازل وعفوا عن الإيجارات ووزع الجزارون والخضرجية طعامهم بالمجان نكاية في الاستعمار، ولا يزال سليمان موسى محمولاً على الأكتاف وحينما ذهب العمال إلى ورش الصيانة فإن نساء الأنادي قمن بأكبر سيرة سياسية تشهدها المدينة.
وعند جدول في هامة الطريق رأيت محمد السيد سلام وعبد القادر سالم وموسى متى وإبراهيم المحلاوي والطيب حسن والشفيع أحمد الشيخ يتدلى من حبال المشنقة وهو لم يصلها أصلاً وإبراهيم زكريا وقاسم أمين لايزال فارع الطول وأسطوري القامة والحاج عبد الرحمن يردد (كشفناك يا نيو مان) وعطبرة كم بها من فارس حفلت به الأيام، ومحمد إبراهيم عبده كبج يتحدث عن معنى التهميش وجذوره الاقتصادية والاجتماعية.
«2»
لا يزال حسن خليفة العطبراوي يصدح (أنا سوداني أنا)، كل هذه القطارات مرت من هناك وقطار عطبرة حلمنا الذي لن ينتهي سيأتي دائماً في مواعيد الثورة.
لا نزال نحن بأن تتوجه القطارات وتربط كافة أنحاء السودان والسودانيِن لتربط بين عطبرة وأريات وأويل وواو في أقصى دولة جنوب السودان ونيالا وكوستي ومدني وبورسودان وحلفا القديمة في دولة السودان وهي تحمل الركاب والبضائع والخيرات والصلات وكم تشتاق بلادنا لتلك القطارات.
في الطريق تذكرت أصدقائي القدامى أبناء وبنات عطبرة في حركة الطلبة دكتور جعفر كرار وعمر التوم وسلوى السعيد وإبراهيم سعيد ومحمد عبد الخالق وأميرة عبد الخالق وبكري جبريل وعوض جبريل ومحمد الباشا وعادل عبد العاطي، وتذكرت أن البروفيسور دومنيك أكيج محمد قد ذكر لي ذات مرة أنه قد درس في عطبرة الصناعية قبل أن يصبح عميداً لكلية الهندسة بجامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية حيث رحل هناك.
«3»
ولاية نهر النيل تصدر الذهب وتستورد السرطان و98% من سكانها تحت خط الفقر في إحصائية رسمية ذكرها لي أعضاء حكومتها في 2010م، وهذه الولاية وجدت من الحكم الصيت وأخذت العوز مثل امرأة المسيح وطوبى للولاية التي من عوزها أعطت ولا أحد يشتري منها التمور وتوقفت المصانع التي تحولها إلى أشكال أخرى من المنتجات، وكم تحتاج هذه الولاية لفصاحة البروفيسور عبد الله الطيب وعلمه لتعبر عن مأساتها وأحزانها وأصداء النيل وأحاجي الأطفال.
ولاية نهر النيل يضربها البؤس ولكن للكعبة رب يحميها، وفي عطبرة يشتكي التجار من الضرائب والمواطن من الفاقة وما حك جلدك مثل الجماهير، إن المدينة تحتاج إلى اعتصام مستدام.
كنت ذاهباً مع هاشم كمانه الذي يجري حب عطبرة في دمائه كنا على وشك عبور كبري الحرية كحال كل العابرين في الحياة رأيت قهوة مكتوب عليها (خسارة قرايتي) استوقفني الاسم سألت هاشم: لماذا أطلق عليها هذا الاسم وذكر لي أن صاحب القهوة مؤمن كمال بندي مهندس تخرّج ولم يحصل على وظيفة وانضم إلى صف طويل أطول من صفوف الخبز يضم الشباب الذين لا وظيفة لهم سوى العطالة، تم اعتقاله في عام 2017م وخرج وحده في مظاهرة بعد أن خاطب المصلين بجامع الصفا بالسكة حديد شمال لم يتفاعل معه الناس ومع ذلك حمل لافتة في مظاهرة لوحده ذهب بها من حي الداخلة وحتى تقاطع محكمة عطبرة وبعدها تم رصده ومطاردته من جهاز الأمن واعتقل عند محطة الوقود ورحل إلى الخرطوم في معتقل شندي ببحري وأمضى أربعين يوماً، منعته الأجهزة من حضور عزاء والده الذي رحل أثناء اعتقاله.
مأمون بندي أقام هذه القهوة التي تقدم الشاي سيما الشاي بالحليب والزلابية بالنوتيلا والفانيلا مع عدد من زملائه المهندسين وأصبحت القهوة ذات شعبية كبيرة وتوقفت عندها وتعرّفت بمؤمن بندي وأخذت صورة عند اللافتة التي تقول (خسارة قرايتي) اسم موجع يفضح ما حاق بمجتمعنا والشباب الذين هم طاقة عظيمة للبناء وللهدم وعطالة الشباب قضية لا يمكن تجاوزها في أجندة الثورة والبناء الوطني.
سألت مؤمن بندي عن صلته بالراحل دكتور حسن بندي ذلك الإنسان المخلص والمنسي والذي بالكاد تذكر مساهمته في التجمع الوطني الديمقراطي وعمله الدؤوب مع الراحل الفريق أول فتحي أحمد علي القائد العام السابق للقوات المسلحة السودانية وقائد القيادة الشرعية بالتجمع الوطني الديمقراطي وقد أبلغني أن حسن بندي هو عمه وجزى الله حسن بندي خيراً بقدر ما قدّم وهو في رحلته الأبدية وعند مليك رحيم.
«4»
لجان مقاومة عطبرة قامت بمبادرة أطلقت عليها (كلنا خلف العلم) والمعني علم السودان الذي أعطته ثورة ديسمبر معنى وقيمة، وقامت لجان المقاومة بتزيين كبري الحرية بالأعلام والجداريات والطلاء والرسائل الوطنية على الأعمدة، إن الديسمبريين والديسمبريات يمتلكون روحاً جديدة.
بعد نهاية ندوة قوى الحرية والتغيير جاءني أحد أبناء جبال النوبة من مواطني عطبرة تحدث معي باللغة الإنجليزية وأبدى ارتياحه لحديثي عن قضايا النوبة وسألني هل تعرف هيبان وزرتها فقلت له إنني لا أعرف هيبان فحسب بل أعرف كوبنغ إحدى القرى في ريف هيبان وهي قرية دانيال كودي والشهيد سايمن كالو فضحك وقال لي إنه من كوبنغ. والنوبة يحتلون موقعاً مميزاً في مدينة عطبرة وفي أرجاء السودان وكل أرجائه لهم وطن.
في الصباح الباكر وعند شروق الشمس جلسنا في قهوة في سوق المدينة نتناول القهوة والشاي والزلابية وكنا أكثر من دستة من البشر الحرية والتغيير ولجان مقاومة بالقرب من البص الذي سيقلنا إلى الخرطوم وعندما أردنا أن ندفع الحساب لصاحب المحل قال لنا إن الرفاعي صاحب المحل المجاور قد دفع الحساب ولقد سبق للرفاعي أن أتى لتحيتنا ووزع علينا زجاجات الماء البارد ثم دفع الحساب، إن الرفاعي يمثل شعب السودان كله الذي أبى أن ينحني تحت الفقر والمسغبة ويتأبط السماحة والندى ويا أيها الرفاعي الرفيع لك مودة وحب لا ينقضي مثل حبنا لبلادنا والخير مصير إنسان السودان وإن طال الزمان به.
«5»
اختفى ريف السودان المنتج بفعل فاعل وتصاعدة فاشية الإسلام السياسي مع اتساع حروب الريف فالحرب والفقر صنوان وأشقاء بالرضاعة يشربان من نفس النبع. انتقل الريف إلى المدن فخسر الريف ولم تنتج المدن واضمحلت تبعاً لذلك الطبقة الوسطى فتوارى جمال عطبرة القديم ومراكز الاستنارة والأندية ومنتديات الثقافة وحركة النقابات والقطارات ولكن قلب عطبرة المزروع في أحشاء الوطنية والنابض بالنضال وإرث الحركة الوطنية والديمقراطية لا يموت.
عطبرة علمت الناس أخذ الحقوق وهي المدينة الأولى التي أنهت سطوة المؤتمر الوطني، وإن عاد المؤتمر الوطني ستعود عطبرة، إن هذا الشهر هو شهر أكتوبر وبه سمات الحمل وسيفجر طاقات كامنة وسينهض الأحياء تحت الأرض وفوق الأرض لانتزاع الحقوق.
الخرطوم 5 أكتوبر عيد ميلادي الـ(60) وكل عام وأنتم بخير
