اللحن الملوكي للصليب.. لحن “إيتافين ني إسخاي” (٢)


بقلم: م. منــير وصـــفي بطـــــرس

باحث في موسيقى الألحان القبـطية

مـــدرس مــــادة اللــــحن الكنـــسي

بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيــة

بالنسبة للمشهد الثاني في تاريخ ظهور الصليب الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، أريد أن أعيش معكم أعزائي القراء الأحداث المريرة التي حدثت في إضطهاد الأباطرة الوثنيين، وخاصة أيام “ديوكليتيانوس”، فقد عانى الشهداء والمعترفين قسوة الألم، فمنهم من تقطعت أجسادهم ومنهم من أُلقوا للوحوش، وآخرون جُلِدوا بوحشية، وأخرون احترقوا في النيران، وكثيرون قُطِعَت رؤوسُهُم، وتَيَتَّمّأطفالُهُم وتَرَمَّلَت أراملُهُم، وصودرت أملاكهم، وأُغلِقَت بل تهدمت كنائس عديدة، أحداث مؤلمة وحزينة جداً، ثم تحولت هذه الصورة الحزينة إلى مشهد آخر، وهو اعتلاء الإمبراطور “قسطنطين” عرش الامبراطورية الرومانية،فأعطى الحرية للمسيحيين ومنع الاضطهاد، ثم أرجع الممتلكات المُغتَصَبَة، بل هو نفسه آمن بالسيد المسيح،وتحولت الامبراطورية الرومانية رسمياً إلى المسيحية،فلنتصور معاً مدى الابتهاج والفرح والراحة والسعادة التي شملت المسيحيين في أقطار الامبراطورية الواسعة، مع هذا التحول العظيم بفضل عناية الله ورحمته ومحبته لأولاده، وما مدى إحساسهم بالامتنان والشكر العميق لله محب البشر وضابط الكل، الذي حَوَّلَ هذه الضيقة العظيمة إلى فرحة غامرة، وقد كان هذا مكافأة الصبرعلى الألم والاحتمال والتمسك بالإيمان بالمسيح، فأعطاهم الخير والسلام والغنى والفرح .

وكانت أكثر الفئات فرحةً في هذا المشهد الجميل هم الاكليروس، أي الأساقفة والكهنة والشمامسة، لأن الكاهن هو الأب الذي يحمل في داخله آلام شعبه، فهو المسئول عنهم أمام الله روحياً وكان خوفهم شديداً على المؤمنين وقت الاضطهاد، خوفاً من إنكارهم للإيمان عالمين كما قال الكتاب “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت 10: 28)،ولكن الله المحب هو أيضا لا يدعنا نُجَرَّب فوق مانستطيع،بل سيجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل (1كو10: 13)، فأعطي للمُضطَهَدِين قوة خاصة لأن يتمسكوا بإيمانهم إلى أن انتهى عصر الاضطهاد، ومع هذا أيضا ازدادت المسيحية انتشاراً برغم الاضطهاد.

وعن هذا المشهد المُفرِح يتكلم لحن “إيتافين ني إسخاي” ويُعَبِّر عن فرحة وبهجة الاكليروس وكل الشعب المؤمن بإعلان الامبراطور عن غلق معابد الأوثان وفتح الكنائس وانتشار المسيحية.

القالب اللغوي للحن:

يتكون نَص اللحن في مجمله من سبعة أرباع ولكل رُبع موضوع خاص به: فموضوع الرُبع الأول يتكلم عن الإعلان الذي بعثه الإمبراطور قنسطنطين إلى الأسكندرية: “إغلقوا أبواب البرابي (المعابد الوثنية)، وافتحوا أبواب الكنائس”وهذا الرُبع له لحن معين يتميز بروح النداء،

وفي الربع الثاني يتكلم عن نتيجة هذا الإعلان وأثره على الإكليروس من أساقفة وكهنة وشمامسة، الذين لما قرأوا الأخبار فرحوا فرحاً غامراً، فمجدوا الله، وتتوافق كلمات هذا الرُبع مع اللحن الطويل المميز الخاص به، كما أنه يُناسب الاكليروس أكثر الفئات تضرراً بالاضطهاد وبالتالي أكثرهم فرحاً وغبطةً، وفي الرُبع الثالث يتكلم عن فرحة الشعب المؤمن فرحة عظيمة لا تُوصَف، وقد خَصَص المُلَحِّن الواعي لهذا الرُبع فكراً موسيقياً مُعَبِّراً عن هذا المعنى، أما الرُبع الرابع فهو يُكَرِّر فكرة الرُبع الأول، وهو نفس الإعلان الامبراطوري، والربع الخامس تأكيد لنفس معنى الرُبع الأول والرُبع الثالث، وأخيرا ينتهي اللحن بالرُبع السابع الذي نطلب فيه صلوات الملك قسطنطين الذي أخذ الحياة الأبدية وإكليل البر؛ نتيجة إيمانه وما فعله للكنيسة والمسيحيين ولتاريخ المسيحية، وكذلك نطلب صلوات القديسة هيلانة الملكة، التي أحبت الصليب حباً شديداً،وعملت على إظهاره وإكرامه، ولذلك فإننا نجد أن الكنيسة وضعت للأربعة الأفكار الأخيرة لحناً بسيطاً نشيطاً مفرحاًلتأكيد المعاني السابقة بوجهة نظر جديدة.

القالب الموسيقي للحن:

أما من حيث القالب الموسيقي، فاللحن يتكون من أربعة أفكار موسيقية رئيسية ولنسميها (ا، ب، ج، د)، وكل فكرة موضوعة بصياغة موسيقية مختلفة وبسرعة مختلفة،وبصورة عامة يبدأ اللحن في الفكرة الموسيقية الأولى (أ) ببطء وتمهل، في حالة من التحرر الإيقاعي (أدليب)، والتي يمثلها الربع الأول من اللحن والذي يسمى طقسياً (مقدمة اللحن)، ولقد استخدم فيه أسلوب صلوات الكاهن ومردات الشماس، في المقام الموسيقي وطبيعة الجُمَل اللحنية المُمَيِزَة لمردات الشماس، وهذا مناسب هنا لأنه يتكلم عن حالة النداء والإعلان، ونحن نعلم أن عمل الشماس من خلال مرداته في الليتورجيا الكنسية هو التنبيه والتحذير والإعلان، وكأن الكنيسة تُعيد إلى أذهاننا فكرة النداء،من خلال استخدام هذا الأسلوب الموسيقي فيُعطي انتباه للفكرة أوالمعلومة القادمة في اللحن، ويُعتَبَر هذا تمهيداًمناسباً للحن خاصة وأن سرعته بطيئة.

الفكرة الموسيقية الثانية (ب) والتي يمثلها الربع الثاني،وهي أول رُبع في اللحن نفسه، ويتميز هذا الرُبع في صياغته الموسيقية بأسلوب “الميليسما” الواضح، أي التطويل والإطناب النغمي على حروف لفظية متحركة فترات طويلة، وهذا مناسب لتوضيح مدى فرحة وشكر رجال الإكليروس، وهم الذين يحملون مسئولية شعوبهم أمام الله،فبسبب هذه المكاتبات من الملك قسطنطين أصبحت الفرحة كبيرة جداً، لتوسيع مجال الكرازة وانتشار المسيحية في المسكونة كلها، وبسبب غلق معابد الأوثان تنتهي كل الممارسات الشيطانية، التي كانت تُمَارَس داخل المعابد الوثنية، وكان تأثيرها السيء كبيراً على المجتمع وعلى إغراء المؤمنين لفعلها، خاصة الضعفاء منهم، فأصبح هذا انتصاراً كبيراً على مملكة الشيطان، وفرحة كبيرة للأساقفة والكهنة كوكلاء أمناء لكنيسة الله، ولأجل هذه الأمور أعطت الكنيسة لهذا الرُبع أسلوباً موسيقياً مطولاً تعبيراً عن هذه الفرحة الغامرة.

الفكرة الموسيقية الثالثة (ج) التي يمثلها الرُبع الثالث من اللحن، وتتميز بلحن أكثر حركة وأسرع قليلاً من الرُبع السابق، وخصصته لفرحة المؤمنين وعامة الشعب، وفيها تُصَوِر الموسيقى فرحة الشعب التي لا تُوصَف، فقد تحملوا الكثير من الآلام والاضطهاد، وجاءت اللحظة التى يكافئهم بها الله عن صبرهم وإيمانهم بالسلام والفرح والتهليل، ولذلك خصصت الكنيسة أسلوب من الأساليب الموسيقية في الصياغة فهو أقرب إلى أسلوب “النيوماتيك”،وفيها كل حرف لفظي متحرك يقابل ثلاث أو أربع نغمات موسيقية، أي أنه لم يَصِل إلى أسلوب “الميليسما” ولا أصبح دمجاً ولكن حالة متوسطة في التطويل النغمي.

الفكرة الموسيقية الرابعة والتي يمثلها الأربعة أرباع الأخيرة من اللحن (د1، د2، د3، د4) وتتميز بأسلوب الدمج،وفيها كل حرف لفظي يقابل نغمة واحدة، وهذا الأسلوب يُعطي سرعة ونشاط وبهجة أكثر، ويُصبِح اللحن ذا إيقاع راقص مبهج، بلحن من أجمل وأشهر وأطرب ألحان الكنيسة على وزن اللحن المشهور كنسياً (الجالس فوق الشاروبيم الذي يقال في أحد الشعانين)، وهنا نجد الربط مابين الأفكار اللغوية والصياغة اللحنية، فهو يُعِيد الأفكار السابقة التي قِيلَت بأسلوب التطويل النغمي، بأسلوب أخر سريع (الدمج)، وكأنه يُصَوِّر المشهد مرتين بطابعين موسيقيين مختلفين، وهنا تَدَرَّجَ اللحن في موسيقاه من حالة البطء والتمهل، وانطلق بنا في سرعة متدرجة من الأبطأ إلى الأسرع، حتى ينتهي هذا اللحن الملوكي العميق بهذا الجو المفرح النشيط الذي يُناسب فرحة المؤمنين بعيد الصليب المجيد.

وللمقال بقية إن شاءالله.

رابط اللحن بصوت المعلم الكبير جاد لويس

تاريخ الخبر: 2022-10-13 09:22:04
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

بانجول.. المغرب والـ “إيسيسكو” يوقعان على ملحق تعديل اتفاق المقر

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-05 18:25:06
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية