تعيش فرنسا، كباقي بلدان منطقة اليورو، أزمة اقتصادية عميقة ناتجة عن أزمة الطاقة، إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا وتوتر علاقات الاتحاد بموَّرده الروسي. هذا ما انعكس في التضخم الذي ارتفعت مستوياته بشكل قياسي، راسماً ظروفاً اجتماعية صعبة لعموم الشعب من الطبقة المتوسطة والفقيرة.

في وجه هذا، اختار عمال فرنسا النضال مطالبين بتحسين ظروف معيشتهم، ورفع الأجور مقابل مراجعة منظومة الضرائب. هكذا طال قطاع تكرير البترول الفرنسي، منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، إضرابات واسعة شلت عملية توزيع الوقود، ما تسبب من اختفائه في المحطات. واتسعت رقعة الاحتجاج لتشمل قطاعات عديدة، من النقل والتعليم، إلى موظفي المسارح.

من ناحية أخرى، كان رد حكومة ماكرون، بالهجوم على العمال المضربين، واتخاذ إجراءات لكسر إضراباتهم. لكن في الوقت نفسه، احتفت الحكومة ذاتها بتقديمها مراجعات للنظام الضريبي، على أنها الحل السحري للأوضاع الاجتماعية الحالية، اكتشف فيما بعد أنها تخدم الأغنياء عوض الفقراء.

إضرابات تتسع وسرقة للوقود

بدأت الإضرابات العمالية في قطاع تكرير البترول الفرنسي بمحطات شركة "توتال إنيرجي"، لتتسع رقعتها إلى شركة "إكسون موبايل"، وتتسبب في أزمة وقود غير مسبوقة بالبلاد طوال الأسبوع الجاري. مطالب العمال كانت واضحة: زيادات الأجور بـ7.5% ورفع للعلاوات السنوية من 3 آلاف يورو إلى 6 آلاف يورو.

مطالب نظر إليها من عموم الشعب الفرنسي على أنها مشروعة، ذلك في وقت بلغ فيه مستوى التضخم 6.8%، كما تراكم فيه شركات الطاقة أرباحاً فياسية. إذ حققت شركة "توتال إنرجي" وحدها أرباحاً عادلت 18.3 مليار يورو، وارتفع الراتب الشهري لرئيسها باتريك بوياني بـ52% خلال سنة واحدة، ليتعدى عتبة 6 ملايين يورو سنوياً، كما يكشف ذلك التقرير السنوي للشركة.

وشهدت عدة مدن فرنسية طوال الأسبوع اصطفاف طوابير طويلة من السيارات أمام محطات التزود بالوقود. فيما أغلق عدد من هذه المحطات الأبواب، لنفاد مخزوناتها من المادة. وأدت الإضرابات إلى خفض إنتاج البنزين في فرنسا بأكثر من 60%، وحسب وسائل إعلام فرنسية، فإن 30% من محطات الوقود الفرنسية شهدت منذ بداية الأسبوع المنصرم اضطراباً في التزود، و1300 منها شهدت نفاد نوع واحد منه على الأقل.

في السياق ذاته، أدت المشكلات في التزود إلى انتشار ظاهرة سرقة الوقود. وحسب قناة "فرانس 24"، عززت شركات الوقود الإجراءات الأمنية لحماية خزاناتها مع تنامي ظاهرة السطو عليها، وألقت الشرطة الفرنسية القبض على شابين في منطقة بواسي كانا يحاولان سرقة أحد الخزانات، وخمسة شبان آخرين معهم ما يزيد عن ألفي لتر من الوقود.

واتسعت رقعة الإضرابات لتشمل قطاعات أخرى من الاقتصاد الفرنسي، إذ أعلن عمال خمس محطات نووية على الأقل إضرابهم مطالبين برفع الأجور. وبدأ عمال النقل بإقليم لوار أتلانتيك كذلك الاحتجاج بالتوقف عن العمل، وانضم إليهم حتى عمال مسرح أوديون بباريس باتخاذ الإجراء نفسه.

هكذا تتعامل حكومة ماكرون مع الأزمة

في وجه هذه التطورات، اختارت حكومة ماكرون الثالثة، بقيادة رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، القبضة الحديدية. إذ أعلنت بورن تفعيل قانون "استدعاء العمال" على منشآت شركة إكسون موبايل التي تشهد الإضرابات، حيث تمنح بموجبه الصلاحية لرجال الشرطة بكسر الإضراب، وإرغام العمال بالقوة على العمل.

وقالت بورن خلال جلسة برلمانية يوم الثلاثاء: "على الحوار الاجتماعي أن يمضي قدماً. هذا ليس الحد الأدنى من الاتفاقات، والإدارة قدمت تعهدات مهمة. لذلك، طلبت من رؤساء دوائر الشرطة أن يشرعوا، وفقاً لما يسمح لهم به القانون، في إجراءات استدعاء العمال الضروريين لتشغيل مستودعات هذه الشركة".

الأمر الذي وصفته النقابات، على رأسها الاتحاد العام للشغل، بـ"الفضيحة"، داعية عموم الشعب إلى دعم العمال. وصوّت عمال المصافي المضربون الأربعاء لصالح مواصلة تحركهم الاحتجاجي في تحد للحكومة. كما نددت المعارضة اليسارية بقرار بورن، معتبرة إياه "ضرباً صارخاً في حق الإضراب" المكفول دستورياً، و"إعلان حرب على الطبقة العاملة".

دعم الأغنياء وتأزيم الفقراء

ولا يقف اصطفاف حكومة ماكرون إلى جانب أرباب العمل، في ظل الأزمة الحاصلة، عند الهجوم على العمال المضربين. بل حتى مشروع "مراجعة نظام الضريبة على الدخل"، الذي روج له ماكرون كحل سحري لحماية الطبقات المتوسطة والفقيرة من تبعات التضخم، اتضح أنه يخدم مصالح الأغنياء أكثر من الفقراء.

هذا ما يوضحه تقرير لمجلة "ماريان"، الذي يشكك في كون قرار إعادة تقييم الضريبة على الدخل، الذي قدمته الحكومة للبرلمان بموجب قانون الموازنة 2023، تخفيضاً للضرائب. وينقل التقرير عن الاقتصادي الفرنسي كليمان كاربونييه، قوله: "لا ينبغي اعتباره (إعادة التقييم الضريبي) تخفيضاً ضريبياً، بل على أنه غياب للزيادة، مقارنة بالسيناريو الذي كنا سنجمد فيه المقياس".

وتضيف "ماريان"، بأنه وحتى في إعادة التقييم الحاصلة سيكون الأغنياء هم الأكثر استفادة، ذلك بسبب الطبيعة التصاعدية لضريبة الدخل. أي أن النسبة الكبرى من المساهمة الضريبية، 78% حسب دراسة سنة 2021، كانت تجبى من الـ20% الأكثر ثراء، مع التقييم الجديد ستحرم الموازنة العامة من هذه المساهمات ما يسبب عجزاً في جهود الإعانات الاجتماعية.

وبالكيفية ذاتها، قرار الحكومة الفرنسية بتجميد أسعار الغاز إثر أزمة الطاقة الحاصلة، يصب في مصلحة الأغنياء عوض الفقراء، باعتبار نسبة 20% الأكثر غنى من المجتمع الفرنسي هي التي تستهلك 26% من الغاز في البلد، وبالتالي مكنهم قرار التجميد من توفير 6.2 مليار يورو هذه السنة.

TRT عربي