ساسة بأحزمة ناسفة


عثمان ميرغني

عندما يختطف إرهابي رهينة ثم يحتمي بحزام ناسف و يهدد بتفجير مبنى إذا لم يُستجب لمطالبه، فأغلب الظن أنه خطط و حسب الخسائر مسبقا ليدخل معركة “صِفرية”، إما كل شيء أو لا شيء إطلاقا.. يتلاشى هو أولا مع دوي التفجير الذي يبدأ بجسده فيقطعه أوصالا قبل تحطيم المبنى.

هذا ما يجري حاليا في الساحة السياسية السودانية؛ قبل يومين وقف سياسي مرموق و شهير يحمل درجة علمية رفيعة أمام حشد جماهيري في غرب السودان و طلب منهم أن يستعدوا لتقبل و استقبال اللاجئين إليهم الفارين من جحيم الحرب الأهلية..
أي لاجئين؟ و من أين؟ لاجئون سودانيون هم “ناس الخرطوم” كما وصفهم، الهاربون من جحيم الحريق في العاصمة السودانية الخرطوم التي -للمفارقة- يقيم فيها هو نفسه مع أسرته.

سبقه بحوالي أسبوعين زميل سياسي آخر، هذه المرة من شرق السودان بالمعاني ذاتها، إما أن تستجيبوا و إما أن نُفجّر الحزام الناسف في شرق السودان.

و بين هذا و ذلك جاءهم الرد من شمال السودان، بعبارة سودانية شعبية غاية في “الصِفرية” تقول (الرهِيّفة تَنّقَدْ) و ترجمتها (الحائط الضعيف فلينهد)، و تعني اصطلاحا (أعلى ما في خيلكم اركبوه)، قرع طبول الحرب و كأنها مباراة في كرة القدم.

هذه الأحزمة الناسفة المتبادلة يربط بينها خيط واحد عجيب، أن الناطقين بها كلهم من عتاة الساسة، و ليس أي ساسة، الذين تجولوا بين المناصب الدستورية حتى أتخموا، و استهلكوا رصيد الجاه السلطوي و لم يبق لهم من متع الدنيا إلا بقية “نيرونية” للتفرج على الدخان يعلو سماء روما المحترقة.

في الخطاب الذي جاء من أقصى الشرق، قال الزعيم السياسي “إذا حصلنا على ما نبتغي ضمن هذا السودان فإن هذه غايتنا لأن جميع السودانيين إخوتنا..”..
استخدام كلمة “السودان” ثم “السودانيين إخوتنا” هنا يضع المتحدث و من يحدثهم خارج الحدود الجغرافية و التاريخية يتكلمون بأريحية عن بلد اسمه السودان يسكنه شعب يسمى “السودانيون”.

أما المتحدث الآخر من غرب السودان فكان أكثر تحديدا حين قال “تعلمون أن دارفور لم تكن جزءا من السودان، كنا دولة مستقلة لنا سلطة و لنا أرض و لنا عُملة، و لكن تم ضمنا للسودان..”، و لمزيد من تحديد الحدود الجغرافية بين الشعبين وصف الآخرين بأنهم (ناس الخرطوم)، رغم كونه واحدا من سكانها، لكنه مرة أخرى يمارس قفزة هائلة خارج الحدود الجغرافية، فالحديث عن أرض اسمها “السودان” و شعب اسمه “السوداني” لكن بلسان من الخارج، و يجدر التذكير أن المتحدثين هنا هم من كبار الساسة الذين تقلبوا في السلطة حتى الثمالة.

الأمر لا يخرج عن تفسيرين لمثل هذا الخطاب “الصِفري” الذي يتعامل مع السودان بكل الجغرافيا و التاريخ و السيادة التي تكلله كأنه “حالة عابرة” قابلة للطَيّ كطَيّ السِجل للكتب.

التفسير الأول أن السياسي السوداني عندما يخلد و تصبح السلطة في ذهنه مجرد ارتباط بالكرسي غير ممهور بمصالح قومية للوطن و الشعب، فهو يرتدي حزاما ناسفا بعلم أو بغفلة، و يصبح خطرا حقيقيا على وطنه يتطلب “تفكيك” حزامه الناسف بمهارة قبل أن يُفجّر نفسه و الوطن.

التفسير الثاني أن تحليل السياسي من علاقته بالوطن و مصالحه القومية العليا يبدأ بارتفاع طفيف في درجة حرارة اختصاره للوطن في ذاته، ثم يتلوه حمى ترتفع تدريجيا حتى تصل إلى “الرأس” فتبدأ مرحلة الهذيان، حينها يصبح السياسي “غير مُكلّف”، له لسان حارق خارق، إن أمسكوا به سلموا و سلم الوطن، و إن تركوه خرق السفينة و أغرق نفسه و الوطن.
وفي كلتا الحالتين، فإن الأمر لا علاج له إلا في نص المادة (50) من القانون الجنائي السوداني التي تنص على أن (من يرتكب أي فعل يقصد تقويض النظام الدستوري للبلاد أو يقصد تعريض استقلالها أو وحدتها للخطر، يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد أو السجن لمدة أقل مع جواز مصادرة جميع أمواله..).

هذه المادة التي استحدثها النظام السابق في قانون 1991 بقصد استخدامها ضد المعارضين السياسيين عند الطلب بذريعة واسعة، تحتمل التأويل في عبارة “تقويض النظام الدستوري”، لكنها لا تزال سارية حتى الآن، و الحكمة في الجزء المتعلق بـتعريض “وحدة البلاد للخطر”، فهل هناك أخطر من دعوة الزعماء و القادة السياسيين للشعب تصريحا أو تلميحا إلى أن يمارس الاحتراب الداخلي؟
السياسي الذي لا يخشى من غوائل خطاب جماهيري مفتوح و منقول على الوسائط الإعلامية فيدعو للحرب الأهلية، لا يستطيع كتابة “شيك مصرفي” بلا رصيد و لو بقيمة عشرة جنيهات، لأن ذلك حتما يفتح أبواب السجن، لكنه قادر أن يَجهر بما تصل عقوبته في القانون إلى الإعدام، لماذا؟
الإجابة سهلة من سياق السيرة الذاتية للتاريخ السوداني المعاصر، فقد ثبت منذ الاستقلال في يناير 1956 أنه رغم الفشل السياسي الوخيم المدمر الذي عانت منه البلاد، لم يتعرض سياسي واحد للمحاكمة القضائية جراء ما اقترفته يداه، علما أن صراعات الساسة كلفت السودان من الأرواح أضعاف من حصدهم رصاص الاستعمار منذ لحظة دخول كتشنر إلى السودان و مجزرته الكبرى في معركة كرري الشهيرة 1898 التي قَتل فيها أكثر من عشرة آلاف سوداني في ثلاث ساعات فقط.

لم يشهد التاريخ السوداني سياسيا أو زعيما أو قائدا حزبيا يقف خلف القضبان ثم ينطق القاضي بالحكم و ينفذ، فالسياسي مرفوع عنه القلم، و لهذا ما أسهل أن يتدرع بالأحزمة الناسفة و يهدد و يتوعد الشعب بالحرب الأهلية، ثم يرجع إلى أهله يتمطى و ينام ملء جفونه عن شواردها و يسهر الشعب جراها و يختصم.
حرب دارفور التي استمرت لقرابة عشرين سنة دامية، و اقتاتت بأروح مئات الآلاف من أبناء الشعب السوداني، و شردت ملايين لا يزالون في معسكرات النزوح و اللجوء، لم يخضع للعقوبة القضائية بسببها سياسي واحد، حتى المحكمة الجنائية الدولية لم تجد في قبضتها إلا مواطنا عاديا واحدا لاذ بها أكثر من كونه خضع إليها.

ما أسوأ السياسة عندما تتحول إلى “سوسة” تنخر في عظم البلاد و تدمرها!

تاريخ الخبر: 2022-10-16 06:22:26
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

بمشاركة المغرب.. افتتاح القمة الـ 15 لمنظمة التعاون الإسلامي

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:10:05
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

معطيات جديدة بشأن إغلاق قطر مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:09:08
مستوى الصحة: 61% الأهمية: 84%

فيديو.. أشرف داري يسجل هدفا رائعا في مرمى مولنبيك

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:09:05
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 71%

كلية الآداب الرباط.. الفكر الفلسفي المغربي يحتفي بنور الدين أفاية

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:10:04
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 58%

"فيفا" يكشف موعد تاريخ قرعة كأس العالم للفوتسال

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:10:06
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري.. تعيينات جديدة وتجديد مهام

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:10:01
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 67%

إشادة إفريقية بجهود الملك محمد السادس لصالح الشعب الفلسطيني

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:09:02
مستوى الصحة: 71% الأهمية: 75%

تفاصيل تعيينات جديدة بالمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:09:11
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 76%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية