صالح عمار يسترجع ذكرى مجزرة أكتوبر في كسلا ويندد بعجز حكومة حمدوك حينها


صالح عمار يسترجع ذكرى مجزرة أكتوبر في كسلا ويندد بعجز حكومة حمدوك حينها

صالح عمار

15 اكتوبر 2020م

صباح ذلك اليوم احتشدت جماهير غفيرة بميدان الحرية في وسط مدينة كسلا رفضاً لقرار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بإقالة الوالي والذي لم يجدوا له مبرراً سوى الاستجابة لخطاب الكراهية الذي تبناه ناظر محلي (نيابة عن قادة العسكر وأجنحة من الحركة الإسلامية أصحاب هذا المشروع الأصيلين).

ألقى عدد من المتحدثين كلمات عبّرت عن روح الحدث وانتهى المحفل بسلام كما تعود أهل المدينة من هذه الجماهير، لكن بعض الحضور قرّر التوجه إلى أمانة الحكومة لإيصال صوته والبعض الآخر سار برفقتهم وفي نيته الانصراف إلى مناطقهم في غرب المدينة والريف الغربي والذي لابد من المرور بأمانة الحكومة والكوبري لبلوغه.

انتظرتهم قبل مسافة من أمانة الحكومة وحتى قبل بلوغ محطة الوقود ونادي الميرغني، قوة من وحدات عسكرية مختلفة أطلقت عليهم الرصاص مباشرةً دون تحذير مسبق (أو حتى إطلاق الغاز المسيل للدموع المتبع في مثل هذه الحالات إذا كان له ضرورة) وسقط شهيدان وجرحى، وبدأت الجماهير تتراجع إلى وسط المدينة ونحو المستشفى الذي توافد إليه الأهالي للاطمئنان على ذويهم والتبرع بالدم، والعدد الأكبر منهم لم يكن مشاركاً في الموكب أو ربما لم يسمعوا به.

أمام بوابات المستشفى حضرت لسبب غير معروف سيارة عسكرية تقل خمسة من الجنود وضابط وعندما هتف الأهالي في وجوههم أطلقوا عليهم رصاص سلاح الدوشكا وسقط خمسة شهداء وعدد كبير من الجرحى (تتوافر مقاطع مصورة للواقعة من زوايا مختلفة وهذا من أسباب إدانة مرتكبيها فيما بعد).

وكما هو متوقع فقد خلفت الحادثة حالة من الغضب امتدت إلى مناطق الشرق الأخرى لكن قادة المجتمع وبتضحية وصبر كبيرين استطاعوا السيطرة على غضب الجماهير ووجهوه نحو المقاومة السلمية وقد انتصر طريقهم في نهاية المطاف، فقد تمت إقالة أعضاء اللجنة الأمنية لولاية كسلا بما فيهم الوالي المكلف ومدير عام الشرطة وصدرت أحكام بالإعدام في قضية شهداء المستشفى ولم يعد هناك شك في أن ما حدث كان جريمة ارتكبتها وتتحملها الحكومة بالكامل، ولايزال الكفاح مستمراً من أجل أن تعتذر السلطة عن الحادثة وتكشف عن القادة المتورطين في إصدار الأوامر، ويمثل مرتكبو جريمة الأمانة أمام القضاء.

ومن حسن الحظ فقد أصبح معظم ما يتعلق بالواقعة موثقاً ولايزال هناك وقت لجمع بقية الشهادات، وقد نشرت العديد من المصادر المحلية والخارجية تفاصيل مهمة وأدلة خلاصتها أن ما حدث كان استخدام مفرط للقوة من قوات عسكرية دون أي مسوغات في مواجهة مدنيين كانوا يمارسون حقهم في التعبير السلمي (على سبيل المثال تقرير هيومان رايتس واتش الصادر بتاريخ 21 ديسمبر 2020 ومداولات محكمة كسلا للمتهمين من الدعم السريع والتي بدأت في يونيو 2021 وانتهت في فبراير 2022).

أما الوجه الآخر للحادثة والذي لم يرو فهو محنتنا نحن أبناء وبنات الشرق الذين اخترنا طريق الديمقراطية والسلم نهجاً وكنا نعد شعبنا وأهلنا أن هذا هو طريق الخلاص.

وضعتنا (15 اكتوبر 2020) في أكبر امتحان يمكن أن يتعرض له إنسان ليختار المفاضلة ما بين طريق الواقع أو المثال، الواقع الذي كان يفرض علينا الانضمام للجماهير الغاضبة والكفر بمشروع الدولة المدنية التي يتواطأ قادتها ومثقفوها مع الرصاص والعنصرية أو العض على نواجذ المثال (المر) والانحياز إلى القيم.

وإنه لاختبار لا أعتقد أن هناك ما هو أقسى منه لجيلنا وأجيال الشباب والشابات الذين بذلوا حياتهم ووقتهم للتغيير.

تعرّضنا جميعاً لكل أنواع الإيذاء المعنوي، ففي الأوقات الصعبة كان هناك من يرى أن الحل في دفع الجماهير إلى الدخول في مواجهة السلطة (التي لم تكن تحمل من رؤية سوى الرصاص) دون امتلاك الأدوات والقراءة الجيدة للواقع وتوازنات القوى المحلية والإقليمية وهو الطريق المعبد في نهاية المطاف نحو “الإبادة”. واقناع الغاضبين الذين تسفك دماءهم ويتعرضون للشتائم كل يوم ليس بالأمر الممكن ففي الشرائع جميعها “الدم قصادو الدم والشتيمة مقابلها الشتيمة” لكن أيضاً الخضوع لهذا المنطق معناه فقدان كل المستقبل والحاضر: وما هو دور السياسة والقيادة غير النجاة بالشعوب وحفظ الأرواح؟.

فكان الخيار تحمّل غضب الصادقين “وحتى المزاودين وأصحاب الأجندة” وعيننا على مستقبل الأجيال المقبلة “والمنتصرة بإذن الله” والتي يجب أن نعبد لها الطريق.

وقد كان بفضل الله ووعي وصمود الجيل الجديد وبعض حكماء الإدارة الأهلية وقادة المجتمع أن عبرنا شوطاً بعيداً في رفض مشاريع الحروب والانقلابات وتمسكنا بدولتنا المدنية التي دفعنا ضريبتها باهظة من دماء الشهداء (والكف عن رد الإساءات واختيار طريق الحكمة).

والشكر للمحامين الذين نجحوا في إقناع الجماهير الغاضبة أن الحقوق يمكن أن تسترد بالمحاكم بدلاً عن السلاح، وأن خطاب الكراهية يمكن هزيمته بالمنطق وأن المجتمع يمكن أن يهزم الدولة بالوحدة والسلمية.

سيحفظ التاريخ أن بعض رفاقنا المدنيين وهم قادة في جهاز الدولة وقفوا يتفرجون على محنتنا، وتركونا نسبح وحدنا عزلاً في بحار ظلمات خطاب الكراهية والنزاعات المدعومة بإمكانات الدولة.

والشكر والتقدير للقلة التي لم تتردّد في الانحياز إلى القيم ورفعت صوتها عالياً ضد الإقصاء والعنصرية وأخص لجان المقاومة وآخرين في مواقع متفرِّقة يستحقون العرفان والتكريم.

وقد تعلّمنا الكثير ولازلنا منذ (15 اكتوبر) وما بعد ابريل 2019م، والكثير من القضايا الشائكة والملتبسة قد اتضحت الآن.

وليس من البساطة أن ننسى شهداءنا ومن وجّه السلاح نحو صدورهم ومن “صمت” وهو في موقع المسؤولية لكن كل الردود ستكون ونحن في خط واحد مع الشرفاء في كل أنحاء السودان وبالطرق السلمية المشروعة وضمن مشروع الدولة المدنية ولن ننجرف إلى “الخراب” أو التهديدات الجوفاء بالانفصال بل وسنقف بقوة ضد كل مشاريع تمزيق السودان التي تستغل الشرق كنقطة انطلاق، والشرق من بعد ومن قبل مفتوح لكل أبناء وبنات الوطن “سودان مصغر” ولن ينجح أصحاب الألسن الطويلة والعنصريين الذين يريدون جرنا إلى عهود التخلف في تغيير واقعه المستمد من عمق التاريخ.

وبما أن الكثير من المياه قد جرت من تحت الجسر واتضح الكثير مما كان خافياً فإن قوى الثورة مدعوة إلى إعادة قراءة حساباتها نحو الشرق وابتداع رؤية جديدة أكثر اتساقاً مع المبادئ والقيم وتقديم نقد مُعلن للمرحلة السابقة حتى لا تكرّر تجاربها ونحن على أعتاب مرحلة جديدة.

* الصورة المرفقة ملتقطة في آخر أيام العزاء بمدينة كسلا بعد حوالي (45) يوم من مجزرة 15 اكتوبر

* الفيديو المرفق تم تصويره يوم أمس (14 اكتوبر 2022) في العاصمة القطرية ضمن الفعاليات الثقافية لكأس العالم وهو رسالة لكل العالم بأن الشرق يرفض الانجرار إلى النزاعات

*مرفق في الرابط تقرير هيومان رايتس واتش عن مجزرة 15 اكتوبر

تاريخ الخبر: 2022-10-17 03:22:38
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

مركز دراسات مصري : المغرب رائد إقليمي في مجال صناعة السيارات

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:06
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية