إلى صديقي بكري الجاك


إلى صديقي بكري الجاك

أثر الفراشة لا يرى.. الثورة السودانية تحتاج إلى ترتيب لا لصدفة

فايز الشيخ السليك

أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزولُ

هو جاذبيّةُ غامضٍ

يستدرج المعنى، ويرحلُ

حين يتَّضحُ السبيلُ

تبقى الفراشة ذاتها ترفرف بأجنحتها مرفوعة من جمال الفيلسوف محمود درويش، وحديث أثر الفراشة يقفز بي إلى جدل الرفقة الطويلة مع صديقي بكري، حيث حواراتنا الوجودية الطويلة، ومنها ذات محطة عندما كنا نتحدث في أسمرا حول نظرية (تأثير الفراشة).

لا أزال أذكر إعجابك بمقولة: “رفرفة جناح فراشة في الصين، قد تتسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن، في: أمريكا، أو أوروبا، أو أفريقيا”.

أظن تعجبك المقولة ذاتها بنسخة مختلفة: “إن رفرفة جناح فراشة في غابات الأمازون يمكن أن تتسبب، بعد وقت، في حدوث إعصار في تكساس”.

تذكرت الحوارات ما بين شوارع أسمرا، إذاعة صوت الحرية والتجديد، بعد قراءة مقالك (رأس المال الاجتماعي والمشروعية السياسية)، توقفت كثيراً عند آخر فقرة في المقال، ورأيت أنها نتيجة تستحق الحوار حولها عند الحديث عن الثورات، وتشكيل ما يعرف بالكتلة الحرجة. إذ قلت: “إن استعادة الحالة الثورية كما يقول التاريخ، بالإضافة إلى توفر رأس المال الاجتماعي، في حاجة إلى تضافر عوامل عديدة أخرى، من بينها الصدفة واللحظة التاريخية التي ليس لها علم معرفي ومانيوال يمكن اتباعه”.

في يوم 22 سبتمبر الماضي، قررت الشابة الإيرانية مهسا أميني، زيارة العاصمة الإيرانية طهران مع أسرتها، وعند وصولها إلى المدينة ألقت شرطة الأخلاق – المعادل الموضوعي للنظام العام في السودان– القبض على الفتاة بسبب ارتدائها زياً لا يعجب سدنة الملالي، ولقيت الشابة حتفها في مخافر الشرطة، فكان موتها فاجعة وصدمة أشعلت النيران في كل إيران. لا تزال النيران تشتعل، ربما يطول الوقت أو يقصر حتى تحصد ثورة النساء في طهران ثمار كفاحها الطويل، وليس من المستبعد أن تحرق أعاصير الفراشة أميني رموز وسياسات وقوانين الملالي.

في عام 1954، سيدة سوداء اسمها روزا باركس، تنفذ أوامر سائق حافلة لها بترك مقعدها ليشغله بدلاً عنها راكب أبيض البشرة، لأن القوانين الأمريكية كانت تخصص المقاعد الأولى لذوي السحنات البيضاء، ولو امتلأت يكون نصيبها في ما يليها من حافلة الركاب. وقع ذلك الأمر الغريب من عاملة ماكينة خياطة، في مدينة مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما، أصرت روزا على عدم ترك مقعدها. شعرت روزا المجهدة والغاضبة بقسوة أوامر سائق الحافلة، فقررت عصيان الأوامر تلك، وفي نفسها تقول: “سجن سجن غرامة غرامة”، كما نقول. وبالفعل، اقتيدت السيدة إلى المحكمة التي غرمتها مبلغ عشرة دولارات.

ما أعقب ذلك كان زلزالاً حقيقياً لا يمكن قياسه بمقياس ريختر. انتظمت البلاد، نتيجة حادثة روزا، حركة احتجاج واسعة، وقاطع السود والملونون الحافلات في الولاية، وفي أجزاء أخرى من أمريكا، مما أرهق أصحاب الحافلات من رأسمالية أمريكا وقتها مدة (381) يوماً.

أفتت المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الوسطى في ألاباما في يونيو 1955 بعدم دستورية قوانين التمييز بين السود والبيض، ثم أيدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية القرار في نوفمبر 1956.

كان ثمرة تلك (الحادثة) التي يمكن اعتبارها (صدفة)   حركة حقوق مدنية بقيادة مارتن لوثر كينق، غيرت كثيراً من وجه الولايات المتحدة، وحاصرت كل أشكال التمييز العنصري، حتى نجح شخص أسود، أصول والده من كينيا، اسمه باراك حسين أوباما، في دخول البيت الأبيض لدورتين، وبنسبة أصوات تعد الأعلى في تاريخ الانتخابات الأمريكية.

في يوم 17 ديسمبر 2010، أضرم الشاب محمد بوعزيزي النار في جسده النحيل تعبيرًا عن غضبه من شرطية اسمها فادية حمدي، صادرت العربة التي يبيع عليها الخضر.

لم يكن جسد بوعزيزي هو المشتعل، بل كانت تونس كلها مشتعلة ضد رئيسها بن علي، بخروج مظاهرات غضب شارك فيها مئات الآلاف تضامناً مع الشاب وثورة للكرامة الإنسانية المهدرة في رمز بوعزيزي. ارتفعت ألسنة اللهب بعد مصرع الشاب الذي صار أيقونة  في 4 يناير 2011، في مستشفى بن عروس، بسبب حروقه.

لم تتوقف ثورة الغضب في تونس، بل انتشرت في عدة مدن عربية ضمن سلسلة فصول، وهي ما اصطلح بتسميته (الربيع العربي). اتخذت القاهرة مثلاً من قضية مقتل الشاب خالد سعيد في أحد أقسام الشرطة أيقونةً لثورة يناير 2011، واتسعت دوائر حريق البوعزيزي، في: طرابلس، وصنعاء، وسوريا، دون أن تتوقف النيران إلى اليوم، في: اليمن، وسوريا، وليبيا، برغم مرور (11) عاماً من المظاهرات التي تحولت إلى مواجهات عسكرية.

هل كانت الشرطية فادية تتوقع أن يؤدي فعلها إلى كل تلك الثورات؟ وهل حين أحرق البوعزيزي جسده كان يدرك أنه الريح التي حركت جناح الفراشة لتنتقل عواصفها إلى مدن عديدة في الشرق الأوسط؟

يبدو للناظر من أول وهلة أن عدداً من الأحداث التي وقعت صدفةً غيرت كثيراً من مسارات التاريخ، بل صنعت واقعاً جديداً مغايراً، والصدفة تعني وقوع حدث ما في سياق ما، بطريقة فجائية وبدون ترتيب، أو ربما تعبر عن حالة عبثية أو فوضوية.

حديثك يا صديقي بكري عن حاجة الثورة للصدفة، أعادني إلى نظرية أثر الفراشة. لا أستبق اسم بكري بصفته العلمية والأكاديمية ولقب دكتور، لأن بين الأصدقاء والرفاق تختفي الألقاب، ولو كانت علمية مستحقة. وأنت الكادح في دروب العلم كدحاً فملاقيه، معرفة أصقلتها التجارب النضالية منذ أيام جامعة الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي، وحتى اقتحام الكفاح المسلح في شرق السودان، بحثاً عن الحرية والتجديد.

كعادتك يا صديقي بكري، تؤسس لكتاباتك بمقدمات بحثية تقود إلى نتائج منطقية وخلاصات، وأنت الأستاذ الجامعي الذي يدرس السياسات العامة في جامعة (لونق أيلاند) في نيويورك، بالولايات المتحدة الأمريكية، كتتويج لكدحك العلمي والمنهجي.

أتفق معك يا صديقي في كل رؤيتك، لكني، فلسفياً، أرى أن الصدفة ليست أمراً منفصلاً أو معزولاً عن السياق العام الذي تولد فيه التطورات ويحدث التغيير. وأؤمن لدرجة اليقين بأن الأحداث المعزولة لا يمكن ان تخلق انفجارات عظيمة، وأن الصدفة لن تغير مسار التاريخ، وأن وقوع حادثة ما تثير الاهتمام تعني تماماً اكتمال عناصر التغيير في جانبيها الموضوعي المتعلق بسياسات النظام وممارساته، وجانب ذاتي يتعلق برفض الجماهير لتلك السياسات.

تحدث الأحداث تلك بلا ترتيب كما يبدو في الظاهر، لكنها تكون نتيجة طبيعية لممارسات فاسدة للأنظمة، وثمرة مرة لغرس القمع والعسف والتمييز العنصري، بل هي شحنة ناسفة وضعتها السلطات بأفعالها داخل حقائب النفس المتوترة دون أن تدرك أن الشحنات تلك ستنسفها هي قبل أن تروض وحش الجماهير.

تعد الثورات انفجارات عظيمة في تواريخ الشعوب و(ثورات الجماهير)، تحدث عبر تراكم الأحداث، وتحولاتها الكمية والنوعية حتى أوان ميلاد النقلة الحاسمة، أو (اللحظة الفارقة)، أو (انفجار القنبلة الناسفة). أما الحوادث الصغيرة، فلا تعدو سوى أن تكون أشبه بعملية انتزاع فتيل القنبلة.

يقع حادث صغير، ربما في مدينةٍ صغيرة، قد يتمثل في مقتل بائع متجوّل، مع أنّ عشرات من الباعة كانوا قد ماتوا قبله، أو قتلوا أنفسهم غضباً، إلا أنّ ما يسبق الحادث من تراكم، وما يتبعه من تحريض وتعبئة، وحشد تجعل من هذا الفعل دون غيره بمثابة حدث زمني يعلن بداية الثورة.

كثيراً ما تبدأ مقاومة الاستبداد سلبياً بمحاولة الرضوخ  والتكيف، وكلما زاد القهر بدأ السخط يتولد في النفوس، ويعقب السخط تململ تذمر ثم تمرد وانفجار،  وغالباً ما تحدث الأحداث المعزولة ظاهرياً أو ما يسمونها (صدفةً) خلال فترات التذمر والغضب المحقون في النفوس، فتصبح الحادثة إهانة للجميع وبدايةً للثورة.

ما تمر به الثورة السودانية حالياً من انحسار ظاهري يا صديقي؛ هو نتاج مباشر للضعف السياسي والتنظيمي، والتناقضات بين قوى الثورة وتقديم المصالح الذاتية والقبلية والحزبية على مصلحة الوطن؛ بالإضافة إلى سياسات التحطيم المعنوي التي يمارسها المتربصون بالثورة والتغيير، وتهدف إلى تفتيت الجماهير ووحدتها عبر آليات التخريب والاحتواء.

يقول الأستاذ الحاج وراق، في مقال نشره عام 2009 بصحيفة (السوداني): “تهدف إجراءات تحطيم المعنويات إلى إشعال التناقضات والاختلافات بين القوى ذات التوجهات السلبية المعادية، والاستفادة من هذه التناقضات. وعبر هذه الإجراءات يتم تقسيم تلك القوى وتخريب صفوفها، وعزلها، أي الاستثمار في اختلاف الأجندة السياسية وشخصنة الخلافات العامة، واستغلال شح النفس التي لا ترى إلا ما ترى، ولا تضع للآخرين مساحةً”.

لم تبلغ الثورة نهايتها حتى الآن، وما تحتاجه كي تنتصر نضال النفس قبل هزيمة مخططات القوى المعادية للثورة، متمثلاً في مقاومة آليات التحطيم المعنوي، ومواجهة خطاب الكراهية والتخوين وحفلات الشواء المستمرة. تحتاج هذه المواجهة إلى وقوف مع النفس، وما الثورة إلا انقلاب على الذات.

نحن اليوم في أمس الحاجة للاستثمار في رأس المال الاجتماعي المتوفر بالتراكم، وتوظيفه في عملية بناء تنظيمات قوية، وخلق مؤسسات مرنة ومستوعبة لكل قوى الثورة، وصنع قيادة جماعية نستعيد بها تلك اللحظة التاريخية الفارقة.

نحن الآن لا نحتاج إلى صدفة، أو إلى تلك الأحداث الصغيرة المتعددة، والتي تقود إلى تحولات نوعية، غض النظر إن أسميناها صدفة، بقدر ما نحتاج إلى ترتيب الأوراق المبعثرة والدواخل المشتتة، وعلاج الأنفس الشحيحة الأمارة بالإقصاء والعداء والكراهية.

faizalsilaik@gmail.com

تاريخ الخبر: 2022-10-17 06:22:27
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية