فى معنى التلوث الثقافي


العلاقة بين مفاهيم العلوم الطبيعية والفلسفة والعلوم الإنسانية علاقة مألوفة وقديمة، فالعلوم الطبيعية إما أنها تؤثر بشكل مباشر على الفكر الفلسفى والاجتماعي، ولعل الأمثلة الأبرز على ذلك مفهومى التطورية والنسبية، وإما أنها تعير المجالات الفلسفية والاجتماعية مصطلحات يُعاد توظيفها لدراسة وتحليل الظواهر الاجتماعية على غرار الظواهر الطبيعية. وفي هذا السياق لاحظت أن هناك كتابات تستخدم تعبير “التلوث الثقافى” على غرار “التلوث البيئي” لتحليل المتغيرات الثقافية غير المرغوب فيها. ولأننا أمام كثرة من المصطلحات والمفاهيم، فربما يكون من المفيد النظر في “مصطلح “التلوث الثقافي” للوقوف على مدى قابليته لتحليل الظواهر الثقافية، وخاصة أن الكتابات المتاحة تستخدمه لاعادة التحليل التقليدى بشأن المتغيرات الثقافية وتأثيراتها على الهويات أو القيم الثقافية، مثل العلاقة بين الوافد والموروث أو الغزو الثقافي وما إلى ذلك.

ولنبدأ من المجال الطبيعي، فعند الحديث عن تغير المناخ وتلوث البيئة، فإننا نتحدث عن مصطلحين مختلفين ولكن بينها ترابط وثيق، فتغير المناخ يعنى التحول طويل الأمد في أنماط المناخ. وما نعانيه الآن هو تسارع وتيرة هذا التغير بسبب أنشطة بشرية تؤدى إلى الإنبعاثات ومن ثم ارتفاع درجات الحرارة عالميا واختلال النظم البيئية. أما تلوث البيئة فيعنى إدخال مواد ضارة صلبة أو سائلة أو غازية فى البيئة الطبيعية (الهواء والماء والتربة)، ومنها مواد غير قابلة للتحلل، مما يؤثر على صحة الإنسان والكائنات الحية ويفضى إلى خلل فى التوازن البيئى. وبالتأكيد ثمة ترابط وثيق بين تغير المناخ وتلوث البيئة، ومثال ذلك تلوث الهواء بانبعاثات الغازات الدفيئة بوصفها المسبب الأول لتغير المناخ، كما أن التغيرات المناخية تؤدى بدورها إلى تلويث البيئة، ومثال ذلك أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدى إلى حرائق الغابات ومن ثم تلوث الهواء، فضلا عن تلوث البحار والمحيطات من جراء الأمطار الحمضية.

وبتطبيق هذه المفاهيم على الواقع الثقافي، يمكن الحديث عن “التغير الثقافى”، وهو مفهوم متعارف عليه في العلوم الاجتماعية والدراسات الثقافية وله ملامحه وأبعاده، كما يمكن الحديث عن “التلوث الثقافي” وهو تعبير وصفى تحدث عنه البعض ولكنه لم يستقر كمصطلح علمى أو كأداة للتحليل. ويعني التغير الثقافي بدون أحكام قيمية، وفق بعض التعريفات: “التغير في طريقة حياة الناس، بما في ذلك مواقفهم، وقيمهم، ومعتقداتهم، وفنونهم، وعلومهم، وأنماط الإدراك، وعادات الفكر والنشاط” [مرجع أكسفورد]. وبشكل عام فإن الثقافة حالة دينامية متغيرة، وثمة عوامل عديدة تؤدى إلى هذا التغير، ولأن مقابل التغير هو الثبات، فإنه من الصعب وصف أى ثقافة من الثقافات بأنها ثابتة غير متغيرة، إلا فى التصورات المحافظة والأصولية التى لا تعترف بالتغير أو تعتبره انحرافا عن الأصول الثابتة، ومن ثم تلويثا للقيم الثقافية المفترض أن تكون ثابتة ومستقرة.

وبهذا المعنى فمن المفترض أن يرتبط “التلوث الثقافى” بـ “التغير الثقافي”، بوصفه أحد نتائجه على الأقل، ولكن الحالة الانسانية والاجتماعية تختلف عن البيئة والمناخ كحالة مادية طبيعية. فمع التسليم بوجود ظواهر ثقافية سلبية وضارة ومدمرة، ولكن المشكلة أن الحكم على هذه الظواهر يخضع لمعايير مختلفة ومتضاربة، فأى تغير ثقافى له مؤيديه ومعارضيه، فما يعتبره المؤيدون تغيرا إيجابيا قد يعتبره معارضون أمرا سلبيا أو ضارا. فالاتجاهات المحافظة تعتبر المدخلات الثقافية الأكثر انفتاحا ملوثات ثقافية ضارة وغريبةعن البيئة الثقافية، وبالمقابل فإن الحداثيين الأكثر انفتاحا يعتبرونالعناصر الثقافية المحافظة والتقليدية ملوثات وكوابح تعيق التطور والتحضر. وأكثر من ذلك، فإن الطبقات العليا فى المجتمع تعتبر أن بعض المكونات الثقافية الشعبية ملوثات قد تدنس ثقافتهم “الراقية”، وقد ترد الفئات الشعبية وتعتبر أن ثقافات الطبقات العليا ملوثات وافدة من خارج منظومة القيم المحلية.

ومن ناحية أخرى، إذا كان الثبات الثقافى هو المقابل للتغير الثقافى، فإن النقاء أو الطهر الثقافى هو المقابل للتلوث الثقافى، وهكذا يتعقد الأمر، لأن الثبات ثقافى مستحيل، وهو ما يعنى، بالتبعية، استحالة النقاء أو الطهر الثقافى. ولحل المعضلة، فقد نحتاج إلى توافق على أن ظواهر أو متغيرات ثقافية معينة تضر الجميع وتؤدى إلى اختلالات قيمية وسلوكية وصراعات. وقد يبدو هذا التوافق ممكنا، ولكن فى الحقيقة أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالتعصب مثلا ظاهرة سلبية، ولكنها مقبولة ومبررة فى العديد من الممارسات الاجتماعية بداية من التعصب الديني الذي يعتبره البعض علامة إيمانية وتمسكا بالدين والثوابت، أو التعصب السياسي الذي يعتبره البعض دلالة على الوطنية، ناهيك عن التعصبات الرياضية والعائلية والقبلية.

وإذا كان الطرح السابق يعنى النظر إلى التلوث الثقافى من منظور مسبباته، أي دخول عناصر ثقافية غريبة على النسق الثقافى، فإنه هناك طرح أخر ينظر إليه من منظور تأثيراته، وذلك عندما نصف بعض الممارسات الثقافية بأنها تسبب تلوث سمعي أو بصري، فثمة أنواع من الغناء يعتبرها البعض ملوثات سمعية، كما أن هناك مناظر ومظاهر سلوكية أو معمارية أو جسدية يعتبرها البعض ملوثات بصرية. ولكن، مجددا، فإن هذا الأمر يخضع لأحكام قيمية، فأغاني المهرجانات، مثلا، التي يُنظر إليها بوصفها ملوثات سمعية وفق معايير معينة، هي بالنسبة لأعداد غفيرة تعد ذلك النوع من الفنون التي يفضلونها.

إن مشكلة الثقافة الأزلية أننا نحكم عليها بمعايير ثقافية، بمعنى أن أدوات ومعايير الحكم قد تكون هى ذاتها موضوع الحكم، ومن هنا تأتي صعوبة الموضوعية والتوافق. وبالتالي فإن الأمر يتطلب وضع مبادئ ومعايير عامة تتسم بقدر من الموضوعية، مثلا عندما يتم منع الأصوات العالية، سواء كانت أغاني أو ترتيلات دينية أو أصوات آلات، لأنها تسبب أذى أو تلوث سمعي، هنا يصبح المبدأ عام بغض النظر عن التقديرات الذاتية للأفراد. ولكن إذا عجز المجتمع عن وضع مبادئ ومعايير ملزمة، فسوف يصعب التمييز بين تلوث أو سلامة البيئة الثقافية.

تاريخ الخبر: 2022-10-17 09:21:33
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 69%

آخر الأخبار حول العالم

الإمارات: تغريم امرأة سبّت رجلاً على «الواتساب» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:23:58
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 55%

حاكم تكساس يهدد المتظاهرين في جامعة الولاية بالاعتقال

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:11
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 39%

مواعيد قطارات السكة الحديد من القاهرة لأسوان والعكس

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:05
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 46%

البداية مع الإسماعيلى.. مباريات مصيرية تنتظر الأهلى محلياً وأفريقياً

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:07
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 41%

وزارة الصحة: 860 مركزا لتقديم خدمات الرعاية الصحية لكبار السن بالمجان

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:09
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 45%

استمرار التوقعات بهطول الأمطار على كافة مناطق السعودية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:24:02
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

موعد مباراة الأهلي والإسماعيلى فى الدورى والقناة الناقلة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:03
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 43%

تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:01
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 41%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية