الدار/ افتتاحية
بتوقيع مذكرة التفاهم حول إرساء الشراكة الخضراء بين المغرب والاتحاد الأوروبي، اليوم الثلاثاء بالرباط، يكون المغرب قد حظي باستثناء تاريخي جديد في علاقته بأكبر تجمع اقتصادي في العالم، بعد أن حظي في السابق بمرتبة الوضع المتقدم، الذي يمثل وضعا متأرجحا بين العضوية والشراكة التجارية. لكن أهم ما يميز حدث مذكرة التفاهم التي تم توقيعها اليوم بالأحرف الأولى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، ونائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية فرانس تيميرمانس، هو أنه يجعل المملكة المغربية أول بلد يعقد شراكة من هذا النوع مع بروكسيل. هذا السبق الجديد الذي يقبل عليه المغرب بقدر كبير من الشجاعة السياسية والدبلوماسية يعكس التوجه التقدمي الذي يطبع سياساتنا الخارجية على كافة الأصعدة.
فالشراكة الخضراء ليست مجرد اتفاق بروتوكولي يتم التوقيع عليه، ليتم وضعه في الأدراج أو الأرشيف، وإنما هو وثيقة تنص على مجموعة من الالتزامات في مجالات مكافحة التغيرات المناخية، والانتقال الطاقي، وحماية البيئة، والنهوض بالاقتصاد الأخضر والأزرق. وهي بالمناسبة رهانات تعرف في الظرفية الدولية الراهنة مخاضا حقيقيا بالنظر إلى الأزمة الحاصلة على مستوى التزويد بمصادر الطاقة وارتفاع أسعارها، والتهديدات المتنامية بانقطاع الاحتياجات من المواد الطاقية الأساسية عن الاتحاد الأوربي نفسه بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وفي قلب هذه الأزمة التي أدت إلى تضخم في الاقتصاد العالمي لم يتردد المغرب في الانخراط في شراكة خضراء بما يعنيه ذلك من استعداد وتأهيل على مستوى من أجل توفير الاحتياجات الطاقية باستثمارات مالية قد تكون كلفتها عالية.
ويتطلب تفعيل هذه الشراكة من جهة المغرب تحقيق ما يسمى بالانتقال الطاقي الذي سيتطلب المراهنة على التحول نحو صناعة منخفضة الكربون من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، وإنتاج الطاقات المتجددة، والتنقل المستدام، والإنتاج النظيف في القطاع الصناعي. التوجه نحو مشروع بهذا الحجم وهذه الجرأة في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات المطالبة بالعودة إلى مصادر الطاقة التقليدية كالفحم الحجري من أجل تلبية الاحتياجات من الكهرباء، يمثل قرارا سياسيا وسياديا مغربيا شجاعا. لقد وضع المغرب أصلا أسسا مهمة في مجال الطاقات المتجددة باعتبارها واحدا من أكثر بلدان العالم استثمارا في الطاقة الشمسية والريحية، ومن المتوقع أن تعزز الشراكة الخضراء مع جيراننا في الاتحاد الأوربي من حضور هذا النوع من الطاقات النظيفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والبنيات التحتية.
وهناك وجه آخر في هذه الشراكة الخضراء لا يقل أهمية عن جرأة القرار السياسي السيادي للمغرب، إنه يتعلق بالثقة الكبيرة التي أصبح المغرب موضوعا لها من طرف شركائه الخارجيين، سواء تعلّق الأمر بالأشقاء العرب من دول الخليج أو بالأصدقاء الأمريكيين، أو بالشركاء الأوربيين الذين يُعتبرون أكثر من يدرك أهمية المغرب ودوره الاستراتيجي في المنطقة المحاذية للضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. للمغرب تاريخ طويل من الشراكة مع الاتحاد الأوربي انطبع دائما بالتعاون وتضافر الجهود وتعميق المبادلات التجارية والاقتصادية، وتعزز أيضا بالتنسيق الأمني على كافة الأصعدة، إلى أن أصبح المغرب واحدا من بين أكثر الشركاء موثوقية وجدية بالنسبة للاتحاد الأوربي.
ومن الطبيعي أن يفضي هذا التاريخ المشترك إلى المزيد من الثقة حتى يكون المغرب أول بلد يحظى بهذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة التي ستمثل فرصة هائلة للاقتصاد الوطني. ليس من السهل أبدا أن تضع دول الاتحاد الأوربي التي تعيش أصلا حالة من التنافر والخلافات العميقة ثقتها بشكل موحد في بلد واحد، مثلما هو الحال مع المغرب. لهذا فإن هذه الشراكة الخضراء التي حظي بها المغرب في علاقاته مع دول الاتحاد ليست سوى نتيجة طبيعية ومنطقية للسمعة الدولية المميزة التي نجحت بلادنا في بلوغها، وحوّلتها إلى أحد أكثر البلدان الصاعدة استقطابا للاستثمارات وأكثرها جاذبية لرؤوس الأموال. نحن إذن أمام إنجاز جديد لدبلوماسيتنا الوطنية وتتويج لما تم بذله من جهود على مستوى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والحقوقية.
