توفيق الحكيم يكتب: حديث إلى الله

كان توفيق الحكيم «١٨٩٨-١٩٨٧» من آباء الثقافة المصرية المبكرين، كان والده قاضيًا من أسرة من أعيان الريف ووالدته من أصل تركى، منعته أمه من الاختلاط بأقربائه فتفرغ للقراءة وانشغل بالفن، جرب أن يكتب مسرحيات لفرقة تجارية فإذا بالمسرح الذى يكتبه أعلى من مستوى الممثلين والمشاهدين والمخرج نفسه! أرسله والده ليدرس القانون فى باريس فهجر مدرسة الحقوق وسكن فى شارع المسارح.. تفرغ ثلاث سنوات لمشاهدة المسرح الفرنسى والاختلاط بصناعه وعاد بلا شهادة ليصبح أكبر كاتب مصرى فى زمنه، على خلاف مثقفى زمنه الكبار «طه حسين والعقاد» عزف الحكيم عن لعبة الأحزاب ومنافعها رغم انشغاله بالقضية الوطنية، سجل تجربته هو وأعمامه فى المشاركة فى ثورة ١٩١٩ والسجن بعدها فى روايته «عودة الروح» ١٩٣٥ التى قيل إن جمال عبدالناصر قرأها وتأثر بها، حين قامت الثورة كان الحكيم رئيسًا لدار الكتب التابعة إداريًا لوزارة المعارف، ووضع وزير المعارف اسمه فى قوائم عرفت باسم قوائم «التطهير» بدعوى أنه لا يعمل وتجب إحالته للمعاش، تكلم عبدالناصر مع وزير المعارف فأصر على موقفه وهدد بالاستقالة، رأى عبدالناصر أن وزير المعارف يمكن أن يوجد من يحل محله بينما مصر لديها توفيق الحكيم واحد!، كان نجيب محفوظ يعترف بأستاذيته ويقضى فصل الصيف كله فى صحبته، وعندما فاز بنوبل قال إنه يعتبر أن الحكيم كان أحق بها، رغم اهتزاز صورته فى السبعينيات بسبب هجومه المفاجئ على عبدالناصر من جهة وغضب الرئيس السادات من مواقفه من جهة أخرى إلا أنه ظل رمزًا ثقافيًا مصريًا له كل تقدير بسبب موهبته وثقافته الموسوعية ولغته السهلة، فى بداية الثمانينيات كتب سلسلة مقالات فى الأهرام بعنوان «حديث مع الله» وكان يقصد أنها حديث بين العبد وربه، فوجئ المثقفون بهجوم ضارٍ من الشيخ محمد متولى الشعراوى على الحكيم استخدم فيه ألفاظًا قاسية لم يكن معتادًا على استخدامها، أجرى حوارًا فى «اللواء الإسلامى» واتهم الحكيم بالإفلاس والخرف، فى هذه المرة لم يكن هناك من يتدخل ليدافع عن الحكيم، وكان الشيخ الشعراوى فى أوج شعبيته، تدخل يوسف إدريس ليدافع عن الحكيم لكن الهجوم انقلب ضده وقال إن رد الفعل من مريدى الشيخ كان أكبر من قدرته وأسرته على الاحتمال، كان الغريب أن وزير الثقافة أحمد هيكل اتخذ موقفًا مساندًا للشيخ ضد المثقفين وهاجم يوسف إدريس هجومًا شديدًا، أصدر إدريس توضيحًا قال فيه إن ثمة لبسًا فى الطباعة أدى لاختلاط المعنى، فى حين رأى الحكيم أنه لم يكن ثمة داعٍ لكل هذه الضجة وغيّر عنوان المقالات ليصبح «حديث إلى الله»، تصالح الشيخ الشعراوى وتوفيق الحكيم، وذهب الشيخ لزيارته فى المستشفى بعد مرض ألمّ به وقتها.. ننشر اليوم أول مقال من الأحاديث الأربعة تحية لذكرى توفيق الحكيم وتخليدًا لهذه المعركة التى بقيت فى أرشيف التاريخ ليحكم كل من يقرأ عنها على أطرافها وفق قناعته وما يصل إليه بعد القراءة مع الاحترام لكل الأطراف ولكل وجهات النظر. 

وائل لطفى

 

الحديث الأول

هذا الحديث مع الله، لم أر مانعًا من نشره، بإذن الله طبعًا...

فأنت تعرف يا ربى أنه لم يبق لى وأنا فى آخر أيامى غيرك...

وليس غيرك مَن أحب الحديث معه، وأن يكون آخر ما أكتب هو هذا الحديث...

ولا يسقط القلم من يدى إلا وهو يخط اسمك الأكرم، سبحانك، وأنت الذى أكرمت القلم وأقسمت به..

وبإذنك، أسألك أن يكون حديثى فى كل شىء شاهدته وفكرت فيه أثناء إقامتى فى هذه الدنيا، دون حرج... وأن تقوينى على نشره فى حلقات أسبوعية...

كل حلقة يوم ثلاثاء... 

ذكرى ابنى الوحيد... 

الذى ولد فى الشهر الثالث... 

وتوفى فى الثلاثين من عمره... 

يوم ثلاثاء... 

والشكر والحمد لك يا من نفسى بيده ...

«ولَاَ يَكْتُمونَ الله حَدِيثًا» 

نعم ياربى... لن أكتمك حديثًا... ولم يبق لى فى حياتى الآن سوى الحديث معك... فقد عشت الحياة التى قدرتها لى أكثر ثمانين عامًا جعات أهيم خلالها فى كل وادٍ، حاملًا قلمًا أملأ به الأوراق بين جد وهزل... 

ولا أظن أنى فعلت بذلك خيرًا كثيرًا... ولكنى أذكرك كثيرًا... وأتحدث إليك طويلًا... وأعلم أنك تسمعنى... لأنك سميع بصير...

ولكن الحديث معك ليس بيسير... لأنك عليم بكل شىء... وما أقوله تعرفه... وليس من حقى أن أسألك إجابة أو ردًا... وليس لبشر أن تكلمه أنت إلا وحيًا... ومن أكون أنا حتى تحدثنى أنت بالوحى!..

لن يقوم إذن بيننا حوار، إلا إذا سمحت لى أنت بفضلك وكرمك أن أقيم أنا الحوار بيننا: تخيلًا وتأليفًا... وأنت السميع... ولست أنت المجيب... بل أنا فى هذا الحوار المجيب عنك افتراضًا... وإن كان مجرد حدیثی معك سيغضب بعض المتزمتين لاجترائى فى زعمهم على مقام الله سبحانه وتعالى... خصوصًا وحديثى معك سيكون بغير كلفة، أى من القلب الصافى وحده، لا أتكلف فيه صنعة الأسلوب... فأنا سأخاطبك مخاطبة الحبيب لحبيبه والحب الذى ليس كمثله حب، لأنك أنت ليس كمثلك شىء... وعندما سأل بعض المؤمنين نبيك- صلى الله عليه وسلم- عما إذا كانوا سيرونك فى الآخرة لم يُرد أن يخيب أملهم، فلم يقل لهم: كيف ترون من ليس كمثله شىء؟! وكيف وأنتم شىء أن تدركوا من ليس بشىء؟!...

وكيف وأنتم بشر ترون بعيونكم البشرية ما لا تراه العيون!!... وهل ستبقى فى الآخرة بعيون وأجساد بشرية؟... أظن أنهم لم يسألوا ذلك...

والقرآن الكريم قد ذكر فى سورة الأعراف أن موسى قال: «رب أرنى أنظرُ إليك، قالَ: لنْ ترانی ولَكنْ انظرْ إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسْوفَ ترانى فلما تّجلَّی ره للجبلِ جعله دكا وَخرَّ موسى صَعِقا»..

 

أما أنا، فأسأل وأجيب: إن العالم الآخر عالم مستقل عن عالمنا الأرضى، لن يكون رداؤنا فيه رداءًا بشريًا، ولا قوانينه هى القوانين الأرضية... وربما قصد العالم أينشتين بقانون النسبية شيئًا كهذا- وهو من العلماء القلائل المؤمنين بالله وليس كبقية العلماء الملحدين- لست أنسى قوله بالنص: «إنى أدين بالتبجيل كله لتلك القدرة العجيبة التى تكشف عن نفسها فى أضأل جزیء من جزيئات الكون»!... كما لا أنسى قول العالم المعاصر «کاستلر»، الذى يعمل حتى الآن فى كشف أسرار «المادة»، وألَّف كتابًا قال فيه: «إننا كلما أوغلنا فى دراسة المادة أدركنا أننا لم نعرف عنها شيئًا... فسوف يظل دائمًا شىء فيها مخفيًا عنا» فلما سألوه: مخفى بمن؟ أجاب: بالله!... ثم وصف متاعبه فى استمرار البحث بالقوانين المعروفة، إذ اكتشف أنه بعد التوغل إلى أمد بعيد توقفت القوانين عن العمل، وأنه دخل فى مرحلة لم تعد تسری فيها هذه القوانين الطبيعية المعروفة فى الأرض، مما جعله يسأل نفسه: أترى علم الفيزياء الذى نمارسه ليس فى الحقيقة علة واحدة!! أى أنه يوجد عمان كل منهما يعمل مستقلًا عن الآخر: علم للمرئيات، وعلم للمخفيات... أو بعبارة أخرى علم للمحسوسات أو لهذه الدنيا، وعلم فيزياء آخر لغير المحسوسات، أى لغير دنيا البشر، أى للآخرة... وكل منهما له قوانينه الخاصة التى لا تسرى إلا على عالمه...

معنى ذلك عندى أن انتقالنا إلى العالم الآخر سيضعنا فى عالم لا نخضع فيه للقوانين البشرية... وقد جاءت إشارة إلى ذلك فى قرآنك الكريم يا ربى «سورة الطلاق» حيث قلت فى هذه الآية: «الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن». وجاء فى تفسير «القرطبى» نقلًا عن «الماوردی»: على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض، تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم مَن فى غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز.

معنى ذلك أن الأديان نسبية تختص بها أرض دون أرض، لأن البشرية نفسها نسبية... وكأنك يا ربيِ تلمح إلى ما سوف يكتشفه العلماء بعد قرون فى شخص أينشتين.

كما أوحيت إلى رسولك محمد فى قرآنك بقولك: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» والخشية كما فسرها بعض المفسرين ترمز إلى التقدير والإجلال، حتى لقد قال «أبوحنيفة» فيمن قرأ «إنما يخشى الله» بالرفع أى أن الله يخشى العلماء: أن فى هذه القراءة استعارة، والمعنى أن الله «إنما يجلهم ويعظم»... وسواء أكان التقدير والإجلال من العلماء لله، أم من الله للعلماء، فإن المعنى هو أن هناك اتصالًا راقيًا بين الخالق والمخلوق... وهو جوهر العبادة الراقية للعقل الإنسانى الراقى، بارتفاعه إلى حيث يدرك قدرة الخالق وعظمته...

وليس أدل على ذلك الإدراك والإجلال من كلمة ذلك العالم «أينشتين» فى قوله: «رنى أدين بأعمق الإجلال والتعظيم لهذه القدرة العجيبة التى تفصح عن نفسها فى كل جزىء من جزيئات الكون»... وكلمة «كاستلر» عندما قال: «كلما ازداد تعمقنا فى دراسة تركيب المادة تضاعف اقتناعنا بأننا ما عرفناها... فإن جزءًا منها سوف يظل إلى الأبد بعيدًا عن تعليلنا لأنه مخفى عنا... مخفى بمن؟ مخفى بالمبدأ الأوحد: الله...

إن كل ما نعرفه عن العالم المحسوس لا قيمة له فى فهم العالم غير المحسوس... وهكذا حيرة العلم والعلماء اليوم!

كلما توغلوا فى العلم اقتربوا من الخشوع لله... وصدق يا ربى ما أوحيت به فى قرآنك إلى نبيك ورسولك من أنك تخشى من عبادك العلماء... ولذلك أعتقد أنه من الطبيعى والمنطقى أن مثل هؤلاء العلماء المؤمنين بك سوف يكون مصيرهم مغفرتك وأنت الغفور...

والعلماء أقدر على إقناعنا بوجودك ووحدانيتك من الفلاسفة الذين لا يعتمدون إلا على لغتهم وحدها وهى فى الغالب عاجزة أو ملتوية... ولنقرأ ما يقوله «ابن سینا» مثلا فى واجب وجودك: «إن واجب الوجود يجب أن يكون ذاتا واحدة... والذى يجب وجوده بغيره فهو غير بسيط الحقيقة... لأنه ليس الفرد وغيره زوج ترکيبى... إلخ إلخ...».

 

ولكن الله فى حديثى هذا معه جعل يستمع فقط... وتركنى أواصل كلامى... فقلت: ولكن يا ربى بعض رجال الدين عندنا يرون غير ذلك... يرون مصير هؤلاء العلماء من غير المسلمين النار لأنهم لم يقولوا لا إله إلا الله شهادة لغوية... مع أن العلماء قالوها بالممارسة وليس باللفظ... ومارسوا قدرة الخالق ووحدانيته فى أسلوبه المعجز فى خلق الكون وقوانينه التى تدل على أنه الواحد، وأن أسلوبه الواحد فى كل جزء من جزيئات الخليقة لا يمكن أن يصدر عن غيره... ومع ذلك سبق لك يا ربى فى قرآنك أن حذرت من الغلو فى الدين «سورة المائدة»، ولم يغفروا لمن قدرك، وهم لا يعرفون عنك إلا ما حفظوه من ألفاظ لغوية... ولن يقدروك قدرك إلا بالاقتراب من أسرار خلقك... ولن يتسنى ذلك إلا بلغة أخرى... هى لغة القوانين العلمية... ولذلك إذا سمحت لى بالتنبؤ فإنى أتنبأ بأن رجال دينك فى المستقبل سوف يكونون من بين رجال العلوم... حتى يقتربوا منك عن طريق أسلوب الخلق وليس أسلوب اللغة وحده...

وأنا آسف يا ربى أسفًا شديدًا، ولا اعتراض لى عليك، ولكنها مجرد ملاحظة، لماذا وأنا أحبك هذا الحب لم تعطنى لمعرفتك غير وسيلة اللغة، ولم توجهنى إلى دراسة العلم! بل لقد كنت أكره المواد العلمية وأرسب منذ الصغر فى دروس الحساب!...

 

بمناسبة الحساب... يوم الحساب... هل هذا الحساب للجميع؟ طبعًا... ألم يرد فى القرآن: «وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون»...

يُحشرون!... نعم... إذن هو يوم حشر لهم أيضًا!... لكن يا ربى هل هم لهم أخطاء؟... طبعًا، يجب أن أعرف ذلك، أليسوا مخلوقات؟! ما من مخلوق إلا وله أخطاؤه...

ولكن هل الجميع؟... حتى الأنبياء؟...

أعتقد أن الأنبياء معصومون... معصومون من الفعل، وليس من النية... لأن يوسف همت به وهمّ بها... أى تمت النية ولكنه توقف عن الفعل... لأنه رأى برهان ربه، أى تدخلت أنت يا ربى وعصمته عن الفعل...

أنت تعصم من تحب عن الفعل... أما النية فهی لصيقة الغريزة البشرية...

وهل هناك حساب على النية؟... طبعًا... ولكنك غفور... ولماذا الحساب إذن؟... لأنه القانون... أساس ونظام... وأنت خالق الكون... أى فوق القانون...

لا... بل أنت خالق القانون الذى يتم به ترکیب الكون... فإذا فسد القانون اختل تركيب الكون... فأنت لست فوق القانون... ولكنك الحريص عليه... لأنه من خلقك... ووليد حكمتك... فعلًا... حرصك يا ربى على قانونك هو إرادتك العليا... لأن جوهر إرادتك هى الكينونة... هى السكون والوجود، وخلود الوجود... ولذلك سلَّحت كل موجود بأدوات وجوده... ولنا نحن البشر جعلت يا خالقنا الحبيب أدوات وجودنا: الدین، والعلم، والغريزة... وما نسميه الغريزة هى معرفة تكونت فى أعماقنا منذ القدم... وتكدست وتكلست... وصارت تعمل تلقائيًا مع وجودنا... وأصبحت قوة لايصدُ طغيانها إلا الدين والعلم... أما إرادتك الإلهية يا ربى فهى التعادلية بين الثلاثة، فلا تطغى قوة على قوة، بل يعمل الكل معًا فى بقاء الإنسان داخل نطاق التوازن الكونى والكينونة الكبرى... وعبادتك يا ربى، التى يجسدها الدين، هدفها الحقيقى ليس الإحسان إليك، لأنك قائم بذاتك لا تحتاج إلى أحد ولا إلى شىء، فقد قلت فى قرآنك كثيرًا: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها»...

کا قلتَ: «من اهتدَى فإنما يهتديِ لنفسه، ومَنْ ضَلَّ فإنما يضل عليها»... لأن الله يعلم أن البشر ضعیف ولكى ينقذ وجوده من القوة الطاغية التى لشيطان الغريزة المدمرة يجب أن يستمد قوة الوجود من اللّه الموجود الخالد، بذكره دائمًا، والاستعانة به ضد قوة الجاذبية الغريزية المفسدة لتركيبه... فالدين إذن أداة للإنسان... ولم يوجده اللّه إلا أداة تحافظ على الإنسان باقيًا، ضمن التركيب الكونى الذى خلقه الله بقدرته وإرادته وحرص عليه... فالدين للعابد لنفعه، وليس للعبود الغنى بنفسه.

وبعد... إنى لا أحدِّثك إلا بما أنت أعلم به منی... ولكن، أو كان من الممكن أن أحادثك فيما لا علم لك به، وأنت يا ربى العظيم العالم بكل شىء... ولكنك لا تسأم حدیثی، لأنك لا تعرف السأم... فإنك سميع دائم السمع للغط مخلوقاتك الكثيرة، من أبعد المجرات إلى أصغر الحشرات...

 

الحديث الثانى

وَلَا يَكتُمُون اللهَ حَدِيثَا

قرآن كريم

فلنواصل الحديث يا ربى العظيم.. لقد جاء فى قرآنك الكريم ذكر لأديانك الثلاثة وكتبها السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن... اسمح لى أن أسأل: أكان من الضرورى أن تنزل هذه الأديان والكتب الثلاثة؟...

لا بد طبعًا أن يكون لذلك حكمة... ولماذا أسأل؟ لقد خلقت لى العقل... وهو أعجب مخلوقاتك... خلقته لنا لنفكر به فى حكمتك...

ولقد فكرتُ... ولكنى غير واثق برأيى... ما أقوله هو من عقلى... والعقل الذى وضعته أنت فى رأسی درجات... وأنا أذكر ما ورد عنك سبحانك فى حديث قدسی خاطبت به العقل: «ما خلقت خلقًا أعجب إلىَّ منك، وعزتى وجلالى لأكملنك فيمن أحببتُ ولأنقصنك فيمن أبغضت»، ولست أنا على ثقة من درجة حبك لى، فكيف أثق إذن من درجة عقلى الذى سأفكر به فى شأن من شئونك!...

إيمانى بوحدانيتك نبع من إدراك عقلى لوحدانية أسلوبك... فأسلوبك واحد لكل مخلوق حى: إنسان أو حيوان أو نبات... أوجدت معه بوجوده نوعًا من المعرفة الذاتية التلقائية فى صورة الغريزة... فأول ما يعرف هو أين يجد طعامه، فيمد يده إلى ثدى أمه... وأين يجد الخطر على حياته فيخاف من النار...

لأن إرادتك العليا يا ربى هى المحافظة على وجود ما أوجدته...

وهذه المحافظة تحتاج إلى معرفة... وهذه المعرفة توجدها أنت فينا بالغريزة، وأولى الغرائز فينا هى غريزة البقاء مقترن بك...

ثم يتم الوليد مرحلة الولادة ويبدأ يحبو، ثم يدخل مرحلة الإدراك الذى يخرجه من ذاته إلى ما حوله، ثم إلى اللعب بما يقع فى يده، وقد يحطمه... ثم يقف على قدميه ويسير، ويبدأ فى النطق والأسئلة عما يراه، ويدخل فى الطفولة وينمو إدراكه مع عضلاته فيدفعه ذلك إلى النشاط فى صورة اللعب... كل ذلك فى منطقة الحكم الغريزى الذى ينمى فيه عضلاته ويربى فيه مداركه الأولى، إلى أن يدخل فى مرحلة الصبا فيزداد إدراكه بنفسه وبالعالم الخارجى، فيتلقى من أهله ومن أصدقائه ما يجعله يعيش فى مجتمع صغير له نظامه ومعتقداته... إلى أن يخرج منه إلى مرحلة الشباب فتنمو فيه العاطفة، وينمو فيه من المشاعر ما ينتج لونًا من الحياة فيه جماله ومثالياته، ثم يدخل بعد ذلك فى مرحلة الرجولة فيتم فيه العقل واستقراره... 

وعلى هذا الترتيب وهذا الأسلوب أنزلت أنت يا ربى بحكمتك أديانك السماوية: أنزلت موسى والتوراة فى المجتمع الصغير بنظامه الطائفى وعقيدة الوحدانية التى تمت فى مرحلة الصبا الباكر للبشرية مع قوته المادية، وكادت تطغى على قوة العاطفة... فجاءت مرحلة الشباب بعاطفة الحب والمثل العليا فى شخص «المسيح... إلى أن رأت حكمتك يا ربى أنه قد آن الأوان للبشرية أن تدخل مرحلة «الواقع» بمعرفتها الحقيقة ذاتها بالعقل، فجئت برسولك محمد فى سن الأربعين مكتملًا بتجارب الحياة ممثلًا للبشرية، فى كل عناصرها وقلت له فى قرآنك: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى».

ومراحل البشرية هذه جاء وصفها فى كتابى «شهرزاد» ١٩٣٣، حيث جسدت الغريزة فى شخصية العبد، وجسدت العاطفة والقلب فى شخصية قمر، وجسدت العقل والفكر فى شخصية شهريار، وفى آخر المرحلة العقلية طغى العلم، فضَلّ الإنسان... وكانت آخر كلمة شهرزاد «هو العمل على إعادته إلى البشرية» وهو ما جاء به الإسلام قبل ذلك، ولم يفطن إليه المسلمون.

ومرحلة البشرية هى آخر مراحل الإنسان، وفى هذه المرحلة تكتمل فى الإنسان قوة تلك العضلة التى اسمها «العقل»، الذى وصفته أنت يا ربى بأنه أعجب ما خلقت، لأن الإنسان به یعى ذاته وما حوله من خلقك... ثم يحلل ماهية الأشياء والمخلوقات إلى أن يرقى إلى إدراك وجودك... وهذا الإدراك الذاتى بالعقل هو قدرة الإنسان التى أردتها له، ويتميز به عن سائر وجودك بوسائل أخرى غير العقل والتفكير... ولذلك أنت يا ربى قد كررت ورددت فى قرآنك كلمة «البشر»، وكلمة «العقل»... ولم تجعل رسولك محمدًا يقنع البشر بالمعجزات، كما كان الحال مع الأنبياء الذين سبقوه، عندما كانت البشرية فى مراحل الطفولة والصبا والشباب، ولم يكن قد حان الحين بعد لإقناع البشر بوجود الله ورسله بالإدراك الفكرى وحده عن طريق العقل... وهذه هى حكمتك...

وقد نشرت فى أحد كتبى «سجن العمر»: «إننا نولد فى غيبوبة تامة من عقولنا، فكل عضو يتحرك حين نولد إلا الجزء الذى ندرك به الحياة التى هبطنا إليها... تری ماذا كان يحدث لو أننا واجهنا الحياة بعقول مدركة من اللحظة الأولى؟ كنا نفقد عقولنا للفور من هول الأعجوبة... أعجوبة الحياة فى انکشافها المفاجئ أمام القادم من عالم الظلام والعدم، ولكن الحياة تتكشف لنا على مراحل...».

وهذا هو المعنى والسبب فى وصفك لرسولك محمد بأنه خاتم الأنبياء، وأن الإسلام خاتم الأديان السماوية... لأن البشرية بعد أن أدخلتها يا ربى فى مرحلة المعرفة الفكرية للخالق والمخلوق بعقلها المفكر فقد تركتها لهذا العقل... وهذه آخر مراحل البشرية...

تم أنك يا ربى لا يمكن أبدًا أن تلغى ما خلقت وما أوجدت... ولذلك أبقيت كل المراحل السابقة موجودة فى كيان البشرية والإنسان: فإلى جانب العقل الذى توجت به وجوده، أبقيت معه الغرائز والعواطف، وجعات لكل منها ضرورة نافعة، كما أن لكل منها ضرره إذا طغى...

وكان لا بد من الإسلام، وهو الأخير فى أديانك، من أن تناط به مهمة التوازن والتعادل بين الثلاثة: العقل والعاطفة والغريزة... أى الفكر والقلب والمادة، وجعلت نبيك رسول الإسلام يمارس الثلاثة ويقول «حُبب إلى من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة».

وفى قرآنك تحذير دائم بعدم الطغيان والغلو والإسراف، مع السماح باستخدام هذه القوى الثلاث فى حياة البشرية باعتدال.

ثم أنك يا ربى تذكر فى قرآنك دائما بهذا الترتيب: التوراة والإنجيل والقرآن... مع أن القرآن ختام كتبك السماوية... فما قصدك من ذلك؟... بقدر علمى وفهمی، تريد أن نتذكر دائمًا أن ما خلقت وأوجدت فى الماضى لا تريد إلغاءه أو إعدامه... إنما أنت تضيف وتُعدِّل، ولا تلغى ما أوجدت... فوجود موسی وعیسی قبل محمد ليس معناه إلغاءهما... وإلا ماكنت ذكرتهما بالتكريم فى قرآنك الخالد... ولقد كانت المرحومة زوجتى تقرأ الكتب السماوية الثلاثة باعتبار أن القرآن ذكرها بالتكريم، وهى حسنة الإسلام... وكما جاء فى سورة المائدة: «قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم...».

ولى صديق مسیحی کثير القراءة فى القرآن.

ولذلك أعتقد أنك تحب من رجال كل دين أن يقرأوا كذلك كل الكتب السماوية الأخرى... فإذا امتنع عن ذلك أهل الإسلام بحجة التحريف فى تلك الكتب الأخرى، فليحددوا أماكن التحريف فقط وينبهوا إليها، ويمضوا فى قراءة الباقى الذى لا ريب فيه... أما الإهمال التام لما ذكره الله فى قرآنه، فلا أظن الله يرضى عنه.. فالله تعالى

خلق الأديان السماوية لحكمة...

فلا بد من أن نتابع الله فى حكمته حيثما كانت...

                                                                                       من كتاب «الأحاديث الأربعة» طبعة دار الشروق

تاريخ الخبر: 2022-10-25 21:21:40
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

المفاوضات لإقرار هدنة في قطاع غزة "تشهد تقدما ملحوظا"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 15:26:01
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

المفاوضات لإقرار هدنة في قطاع غزة "تشهد تقدما ملحوظا"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 15:26:05
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية