عام علي تجديد العهد مع الثورة و ليس عاما علي للانقلاب

بكري الجاك

في هذه اللحظات التي يتأهب فيها السودانيون من كل حدب وصوب، في الحواضر و الارياف، الي تسطير ملحمة أخري في مسيرة هزيمة الشمولية في كافة اشكالها و بكل حيلها، و بعيدا عن شعوري المتعاظم بأنني كنت لا امانع أن اكون وسط ابناء بلدي في مثل هذه اللحظات حتي ولو كان ذلك سيكون آخر ايام حياتي.

الا أنني موقن بلا مواربة ان توق السودانيين للحرية و الكرامة و نضالاتهم من أجل العدالة و الحق في العيش الكريم ستكون من المحطات المهمة التي ستتذكرها اجيال قادمة في اماكن اخري من العالم حينما تتصفح كتب التاريخ عن صراع الانسان الطويل ضد الظلم و التسلط و الجبروت.

وفي نفس الوقت تٌمزّقٌني الحسرة و يؤلمني الأسي علي ما يحدث لبني وطني في النيل الازرق و في لقاوة و في دارفور. و لو أن هنالك حقيقة ساطعة كالشمس هي اننا نعيش مرحلة انتقال حقيقية علي كل المستويات، فالمؤسسات التقليدية التي تُبني علي الانتماءآت الأولية من قبيلة و طائفة في طريقها الي فقدان تأثيرها التقليدي و المؤسسات الحديثة التي تبني علي المصالح المشتركة و المواطنة المتساوية في مخاض الولادة العسير. الاستثمار في الصراعات الاثنية بشكل منظم كان منهج الانقاذ و الاسلاميين و هاهو يصل الي نهاياته الخاسرة، فمهما تعثرت هذه المخاضات لابد لليل قبلنة السياسة و تسييس القبيلة أن ينجلي و لا بد لمنطق الحق و الحقيقة ان يسود، سيتعلم اهلنا في دارفور و في جنوب كردفان و في الشرق أن استغلالهم بتأجيج الصراعات الاثنية ليس أمرا مستدام و لا يجب أن يكون، و أن الشعوب السودانية التي تعايشت و خبرت عشرات الدول و السلطنات من لدن علوة و المسبعات و الداجو و التنجور و سوبا و مروي ستجد سبيلا للتعايش المشترك، الذي هو سنة الحياة و منطق سيرها.

الواجب الاخلاقي و الفكري المٌلّح هو كيفية تعاطي القوي المدنية الديمقراطية مع هذا التعقيد الذي يفرزه افلاس القوي الانقلابية التي تستخدم الآن آخر كروتها السياسية و هي جر السودان الي معارك اثنية مفتوحة لتقديم المسوغات الموضوعية لاستخدام القوة و العف بشكل واسع و ممنهج من أجل اطالة أمد الشمولية و التسلط و النهب بحجة بسط الأمن و فرض هيبة الدولة، و لعمري هذا هو ذات نهج الانقاذ البئيس، بل هذه الف باء سياستها في تفتيت النسيج الاجتماعي من أجل السيطرة علي الشعوب الثائرة. في تقديري هنالك واجب فكري و اخلاقي، علي القوى المدنية أن تطور رؤي متكاملة لعملية الانتقال السياسي تقوم علي خلق توافق سياسي عريض يشمل كل مكونات المجتمع بما فيها البنيات الاثنية والطائفية لأن لها مصلحة في عملية فتح الفضاء العام و المشاركة في رسم المصير و صناعة القرارات العامة، و توافق هذي ليست معادل موضوعي لتسوية سياسية خاسرة مع اعداء الانتقال الديمقراطي لبناء سودان جديد، بل ضرورة منطقية لاعطاء شرعية توافقية لسلطة انتقالية تستطيع أن تضع لبنات الجمهورية الثانية. التأفف من هذه القوي الاجتماعية في الارياف و التعامل معها بتعالي ( كما اتلمس من بعض القوي الثورية) يجعلها عرضة للاستغلال من قبل الانقلابيين و اصحاب المشاريع الشمولية التي ليس لها وازع وطني او اخلاقي. السياسة غير انها عملية تعريف و اعادة تعريف المصالح العامة و الخاصة هي ايضا عملية تجفيف النهر السياسي لاعداء التحول الديمقراطي.

الواجب الوطني ايضا يلقي علي عاتق القوي المدنية الديمقراطية تطوير خطاب دبلوماسي ناضج يخاطب القوي الاقليمية و الدولية، خطاب يعكس مستوي تفهم التعقيد الداخلي و تشابك المصالح الاقليمية. وفي تقديري ليس من المفيد الاكتفاء بالشكوي من الصراع الاقليمي الذي يدور بالوكالة في بلادنا، بل الاجدي التفكير كنساء و رجال دولة، اذ يجب أن يمضي خطابنا الي ما هو ابعد من الادانة الاخلاقية و الوصف الي كيفية التعاطي مع هذه المطامع و صراع المصالح و نحن في اضعف حالاتنا كدولة بما يحقق مصالح الشعوب السودانية و يقلل من كلفة التغيير السياسي الذي نسعي اليه ببناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة علي المواطنة المتساوية.

خلاصة القول أننا يجب أن لا نكتفي بادانة الشموليين و الانقلابيين فهؤلاء ليس في جرابهم شيء سوي التسلط و الكذب و القتل و السحل و الخواء الفكري و الافلاس الاخلاقي و جميعنا يعي ذلك، و لكن علينا الاستثمار في رأس مالنا الاجتماعي ببناء الثقة فيما بيننا كقوي ثورية ديمقراطية لتطوير رؤي متكاملة لعملية الانتقال تخاطب مستوي التعقيد الذي تعيشه بلادنا و دولتنا المختطفة و تشابك التقاطعات الاقليمية و الدولية، ولم يحدث أن لم تشرق الشمس يوما ما و الثورة مستمرة.

بكري الجاك
25 اكتوبر 2022