قصة 300 ألف سنة من خوف الإنسان من المجهول

ليس للصدى جمال. ما قيل من قبل لا تُبهجنا استعادته، وبالتالى فإن ما كُتب مرارًا لا يستحق أن تُعاد كتابته. وهذا المنطق، ضرورى للتعامل مع سوق الكتاب العربى، فى ظل عشرات الآلاف من الكُتب الجديدة التى تولد كل عام، وفى ظل ارتفاع سعر الكتاب ورقيًا، فشجرة المعرفة الوارفة، تضم غثًا وسمينًا، واللافت والمستحق للمتابعة هو الجديد، غير النمطى، الكاسر للمألوف موضوعًا أو نصًا.

تلك ديباجة ضرورية للحديث عن كتاب «٣٠٠ ألف عام من الخوف» الذى يتناول باللغة العربية قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد، للكاتب النابه جمال أبوالحسن، الذى عرفناه كاتبًا لمقالات فى الشأن العام، بحكم دراساته واهتماماته السياسية والدبلوماسية. وهذا الكتاب هو الثانى له بعد كتاب صغير صدر قبل عشرين عامًا بعنوان «الصراع الدولى» وكان أقرب للكتب الأكاديمية.

الجديد فى الموضوع أنها المرة الأولى التى يتعاطى فيها كاتب عربى مع الجمهور العام ساردًا له حكاية البشر مُنذ ٣٠٠ ألف سنة، وهو عمر أقدم جمجمة بشرية عثر عليها قبل سنوات فى المغرب. المثير فى الأمر أننا لم نفكر من قبل فى عمر البشرية، واستسهلنا تقبل طرح توراتى شائع يُقدر عمرها بنحو عشرة آلاف سنة، ثُم ظهرت جمجمة أوروبية تبين أن عمرها مئةٌ وثمانون ألف عام، قبل أن يُعثر مؤخرًا على جمجمة إنسان المغرب.

ماذا حدث لهذا الكائن على هذه الأرض منُذ ظهر فيها؟ كيف عرف الصيد وتذوق الطعام؟ وكيف اكتشف النار؟ ثم كيف شكلت الجغرافيا سماته وحددت مسارات سلوكه؟ وكيف أمضى قرونه الأولى؟ كلها أسئلة مُستبعدة لم نطرحها ونُناقشها ربما لقلة المصادر العربية فى هذا الشأن، وربما أيضًا لتصور البعض أن استقراء ذلك المجال قد يُمثل معارضة للطرح الدينى القائم على تراث المرويات والحكايات المرسلة.

لكن جمال أبوالحسن أقدم على مغامرة مثيرة، بها قدر من المخاطرة، عندما تخيل حوارًا دائرًا عبر الرسائل بينه وبين ابنته ليلى التى أصيبت بكورونا، وعاشت فى عزلة قلقة، وحزينة، فسألت عما تخاف، وعما تعرف، وما لا تعرف، فولد الكتاب. إنها قصة طويلة، ومريرة لأبناء آدم على الأرض يقول عنها الكاتب فى البداية «قد تبدو رحلتنا فى لحظات بلا معنى.. بلا وجهة. بغير هدف. ستدركين فى النهاية أننا نحن من نمنحها المعنى. نحن مادة القصة ورواتها. نحن الأبطال.. الخيرون والأشرار».

ويورد الكاتب الأسئلة الحائرة فى مقدمة الكتاب من عينة «لماذا اخترنا أن نعيش بهذه الطريقة؟ هل اخترنا أصلًا؟ هل هناك قوانين كبرى لقصتنا أم هى مصادفة؟ هل هناك شفرات خفية؟ وهل يمكن كسرها؟ هل نحن أشرار يقتل بعضنا بعضًا؟ أم أننا رحماء نضحى بأنفسنا من أجل الآخرين؟ لماذا عاش أغلب البشر لا يملكون شيئًا، بينما ظلت قلة قليلة تملك كل شىء تقريبًا؟».

البداية فى قصة الإنسان هى ميلاد الشفرة، واعتمادها ورسوخها، ثم كسرها من بعض كاسرى الشفرات عبر التاريخ. والشفرة هنا هى مجموعة المعلومات المكنونة لدى الإنسان، وكيفية تأثيرها على كل شىء حولنا. إن المؤلف يلاحظ أن الشركات الأكبر قيمة فى العالم هى شركات المعلومات، مثل آبل، ومايكروسوفت، وميتا التى تمتلك «فيسبوك وواتس آب»، وهذه القيمة ليست فى الحجارة والطوب ولا المعدات والأجهزة وإنما فى المعلومات التى تمتلكها، وهذه المعلومات لا نراها ولا نمسك بها ولكنها تغلف كل شىء.

وقصة التطور تقوم على بقاء الأصلح، وهذا المنطق كان داروين أول من أشار إليه فى كتابه «أصل الأنواع» سنة ١٨٥٩ عندما تأكد أن الكائنات الحية تتطور عبر آلية تسمى الانتخاب الطبيعى، فالصفات النافعة يتم توريثها وهكذا يحدث التطور عبر ملايين السنين. ويفسر لنا هذا وجود حفريات لحيوانات انقرضت، ذلك لأنها خسرت صراع البقاء فى لحظة معينة. وفى ١٩٥٣ كشف فرانسيس كريك وجيمس واطسون فكرة «الدى إن إيه» الذى يتضمن الجينات، وهو ما أسهم فى حل اللغز، لنعرف أن الحياة عبارة عن تناقل معلومات مشفرة عبر أجيال متتابعة ويحدث التطور ببطء شديد وتختار الطبيعة الصفات الأصلح.

والمهم فى قصة البشر أن قانون الفناء هو المميز للإنسان عن باقى الكائنات. فنحن نعرف أننا سنموت فى لحظة ما، والأسباب عديدة وسهلة، وحتى مع سريان قوانين البيولوجيا التى تحدث عنها داروين ومندل وقوانين الفيزياء التى تحدث عنها نيوتن، فإننا على يقين بأن موتنا هو أمر يقينى وهو ما يدفعنا للبحث عن أفعال تسهم فى خلودنا، ومن هنا يظهر كاسرو الشفرات فى الكون.

لقد عاشت فصيلتنا نحو ٣٠٠ ألف عام إلا قليلًا على جمع الثمار والصيد. ولم يكن الإنسان يعرف لذاته مستقرًا أو موطنًا، ولا فكرًا ولا عقيدة، ومع حاجتنا للتبادل نشأت الجماعات، فالمجتمع كما يقول الفيلسوف الإنجليزى هو شراكة بين الأموات والأحياء ومن لم يولدوا بعد. «إن الفرد بالنسبة للمجتمع الذى يعيش فيه ليس سوى كائن صغير لا حول له ولا قوة، بمثابة ترس فى ماكينة ضخمة أو نحلة فى مستعمرة نحل كبرى» على حد قول المؤلف.

يحاول الكتاب تقديم تصور واقعى لتشكل المجتمعات ونشأة الدول وقيام الحضارات، فيعزى الأمر لطبيعة الجغرافيا، موضحًا أن الحضارات القديمة قامت على ضفاف الأنهار، مثلما حدث مع نهرى دجلة والفرات نحو ٣ آلاف سنة قبل الميلاد، ونهر النيل فى الفترة ذاتها، ومثلما حدث حول النهر الأصفر فى الصين نحو ١٥٠٠ سنة ق. م.

ويحكى الكتاب كيف اكتشف الناس الرياضيات وعلوم الحساب، وظهرت الكتابة على يد السومريين وفى مصر القديمة، وولد المال وتطور الأمر من تبادل السلع والخدمات بنظام المقايضة إلى تداول المال فظهرت النقود لأول مرة ٣٠٠٠ ق. م. وقاد ذلك المجتمعات إلى ظهور القوانين. 

ويحاول الكتاب سرد قصص صعود الحضارات وتألقها ثم انهيارها مستخدمًا الحضارة المصرية القديمة كمثال، ساردًا ما وصلت إليه من عظمة وتحقق، ومحاولات تخليد تمثلت فى بناء عدد ضخم من الأهرامات. لكنه يكشف عن أن انهيار الحضارة يحدث من خلال كسر تراتبية قائمة، وهو ما يؤدى إلى فوضى نتيجة وضع غير سليم مثلما حدث مع الانهيار الأول للحضارة المصرية القديمة، إذ حدث الأمر بعد أن تجاوز عمر الفرعون الحاكم مئة عام، ثُم رحل لينشأ صراع قاسٍ وانتهى الأمر بالاحتلال.

ويسرد الكتاب قصة ميلاد الأفكار المغيرة للعالم من خلال ثلاث شخصيات أثرت بقوة فى مسيرة الإنسان؛ لأنهم آمنوا به وحاولوا تقديم إجابات شافية عن تساؤلات الغاية من الوجود، وهم بوذا المولود سنة ٥٦٣ ق. م، وكونفوشيوس ٥٥١ ق. م، وسقراط ٤٦٩ ق. م، فقد كانوا شجعانًا ومجددين. أما الأول فرأى أن هناك عالمًا آخر غير مرئى يقع وراء هذا العالم المحسوس وآمن أن الحياة كلها عابرة وأنه لا مهرب من المعاناة المنتهية بالموت. والحل يتمثل فى التخلى عن الرغبة باتباع طريق التأمل والتحكم فى العقل والوعى.

أما الثانى، فاهتم بالطقوس وخلص إلى أن الإنسان قادر بنفسه على الارتقاء بذاته عبر التعليم، وبناء عليه امتدت الحضارة الصينية ألفى عام. 

أما سقراط فدعا إلى التفكير ثم التفكير ثم التفكير. لقد كشف هذا الرجل عن جهل الناس بكل شىء. ففى أحد الأيام جاءته عرافة وقالت له إنه أحكم رجل فى العالم، فانزعج بشدة وحاول التأكد بنفسه، فدار بالأسواق وسأل الفلاسفة والساسة عددًا من الأسئلة ثم اكتشف أنه الأحكم فعلًا ليس لأنه يعرف الإجابات الصحيحة، لكن لأنه بخلافهم جميعًا يعرف أنه لا يعرف. وحاكموه لكن المدهش أنه رفض أن يعتذر، وفضل أن يموت على أن يغير فكرته.

كانت هذه بدايات الأفكار، ومن بعدها ظهرت الأديان التوحيدية، وهو ما حاول الكاتب تجنب طرحه بشكل دينى، وإنما ناقشه بشكل فلسفى، مقررًا أن جوهر الإيمان فى الأديان التوحيدية بدءًا من اليهودية ثم المسيحية، ثم الإسلام هو الاعتقاد بوجود إله واحد للكون، وهو متحكم أعلى فى كل شىء، ونحن لا نراه وليس لدينا دليل مادى على وجوده، لكن ثمة حالة روحية تدفعنا أن نهتدى إليه هى الإيمان.

تاريخ الخبر: 2022-10-27 21:21:20
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:23:48
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

"لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:22
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 51%

بطائرات مسيرة.. استهداف قاعدة جوية إسرائيلية في إيلات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:16
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 62%

بعد 3 سنوات من الحكم العسكري.. تشاد تجري انتخابات رئاسية الي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:07
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 64%

5 نصائح للوقاية من التسمم الغذائي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:23:47
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية