بين عبدالعزيز وعبدالعزيز دولة عظيمة


عندما كنت طالباً أدرُس مقرّر تاريخ المملكة العربية السعودية دائماً ما كنت أتساءل: ما هي الدروس المستفادة للملك عبدالعزيز من الماضي؟ وتحديداً من تاريخ الدولة السعودية الأولى من الدرعية؟ لا شك أن في تسمية الإمام عبدالرحمن الفيصل ابنَه عبدالعزيز تيمناً بالإمام العادل عبدالعزيز بن محمد بن سعود أحد أعظم الشخصيات التاريخية في الدولة السعودية الأولى التي مرّت بتاريخ شبه الجزيرة العربية. لم تخب آماله في هذا الابن الذي غيَّر مجرى التاريخ على غرار السعوديين الأوائل، لكن ما الذي استفاده؟ لا شك أنّ المعزي تميز بعبقرية القيادة في القرن الماضي، فهو أحد أعظم القادة في القرن العشرين وفقًا لظروف المنطقة المحيطة، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: ما هي تلك الدروس التي استفاد منها الملك عبدالعزيز للمضي في مشروعه الوطني وتأكيده كما فعل أجداده من الأئمة السابقين وفق تعامُلهم الناجح قبل 300 عام من قيادة شبه الجزيرة العربية في عائلة عُرف عنها الحكم في الدرعية واستمر في سلسلة أجداد منذ 600 سنة؟ أو سؤال آخر: ما الذي تم تطويره وفقًا لنقاط ضعف لاحظها في فترات سابقة في تاريخ شبه الجزيرة العربية طوال القرون الماضية ونجح في معالجتها إلى الأبد لصالح المنطقة؟ أو أسهمت معالجته في تجاوز تلك النقاط وفقاً لهذا الواقع؟

أعتقد أنّ من أبرز النقاط التاريخية التي نجح في معالجتها والتي أتطرّق بكل تأكيد إلى أهمها فيما يأتي: تجربة توحيد الجزيرة العربية مرةً أخرى وفقاً للواقع التاريخي للدولة السعودية الأولى التي ابتدأ تأسيسها من الدرعية لتعود أول وحدة عربية في شبه الجزيرة العربية منذ قرون ماضية، ومن ثَمّ استكمال الملك عبدالعزيز مسيرة أئمة وقادة الدولة السعودية، والجهود التي بذلوها في سبيل تحقيق مشروع التوحيد والوحدة، حيث قضى الملك عبدالعزيز ما يقارب ثلاثة عقود في تأسيس الدولة السعودية وتوحيدها، بدءاً من استرداد الرياض، ثم توحيد أجزاء نجد، ثمّ ضم الأحساء وحائل والحجاز ونجران وجازان وعسير والجوف وتبوك. فوجد المواطنون أنفسهم أمام دولة حديثة مرتبطة بأهداف الدولة السعودية الأولى ورسالتها، تلك وحدة تاريخية لم تتحقّق في الجزيرة العربية منذ مدة طويلة إلا من خلال الإمام عبدالعزيز والملك عبدالعزيز، وبينهما دولة عظيمة تسير وفقاً للسياسة نفسها وعلى جغرافية الوطن العظمى نفسها، وهو ما دفع عدداً من المواطنين في أنحاء متفرقة من البلاد إلى إرسال البرقيات يلتمسون فيها من الملك عبدالعزيز أن يغيّر اسم البلاد بما يُناسب الوضع الذي تعيشه من تلاحُم ووحدة. واستجابةً لهذه البرقيات التي تحمل رغبة المواطنين أصدر الملك عبدالعزيز أمره الملكي في سنة 1351هـ (سبتمبر 1932م) الذي جاء في نصه: "ونزولًا عند رغبة الرأي العام في بلادنا وحبًّا في توحيد أجزاء هذه المملكة العربية أمرنا بما هو آت؛ يحوَّل اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها إلى اسم (المملكة العربية السعودية)"، علماً أن أول الإشارات التاريخية لاسم الدولة السعودية وردت في تاريخ ابن لعبون المعاصر للدولة السعودية الأولى.

والنقطة الثانية تتلخص في إدارة الحرمين الشريفين؛ فتعامُل الملك عبدالعزيز في إدارة شؤونهما كان وفقاً لواقع تاريخي في تجربة الدولة السعودية الأولى، وهو ما تم من خلال معالجة عدة موضوعات مثل: كسوة الكعبة، وتوحيد الصلاة خلف إمام واحد، فقد كان أتباع كل مذهب قبل الدولة السعودية الأولى يصلون خلف إمام مذهبهم في مشهد مؤسف من الفرقة والتعصب المذهبي، فاجتمع المصلون خلف إمام واحد وأبطل ذلك الملك عبدالعزيز.

حينما أعاد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - عند إدارته الحرمين الشريفين ما هو معمول به من أنظمة سعودية قبل ما يقارب ثلاثة قرون، مثل صلاة الجماعة وكسوة الكعبة، تعامل الملك عبدالعزيز مع موضوع كسوة الكعبة مثلما تعامل السعوديون الأوائل في الدولة السعودية الأولى في تلك المعالجة واستثمار المقومات الاقتصادية المهملة في شبه الجزيرة العربية طوال القرون الماضية، فقد كساها السعوديون الأوائل من الأحساء قبل أكثر من 250 سنة، وفي عام 1346هـ أمر الملك عبدالعزيز بإنشاء أول مصنع لكسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة بعد إهمال طويل لشبه الجزيرة العربية في الاستفادة من المقومات الداخلية. وهنا يكمُن التشابه بين التعامُلين؛ أسرة واحدة، جغرافية واحدة، سياسة واحدة، والاستفادة من التجارب التاريخية السعودية على مدى القرون الماضية من نشر الوحدة والأمن والثقافة والسلام.

ولكن؛ ما هي نقاط الضعف التي واجهت شبه الجزيرة العربية وكذلك الدولة السعودية الأولى وعالج إشكاليتها المعزي إلى الأبد؟ وللإجابة عن هذا السؤال يمكننا البدء من فكرة مشروع توطين البادية، لا أتردّد في اختيار هذا المشروع ليكون أحد أعظم المشاريع الاجتماعية في القرن الماضي؛ فبعد توحيد المملكة العربية السعودية كان لمشروع توطين البادية النصيبُ الأكبر في جهود الملك عبدالعزيز، وبرز دوره في الاهتمام بالقبائل التي تسكن في صحراء المملكة، فهيّأ لهم حياة مستقرةً ومنحهم مقوّمات الاستقرار في سبيل تنمية المجتمع وتطويره، كالمساكن وتوفير وسائل العمل والدعم الزراعي والتعليم، فتبع ذلك الاستقرار الاجتماعي العظيم الذي عمّ المملكة العربية السعودية. وهذا المشروع الاجتماعي بدأ على نحوٍ فعّال قبل اكتشاف البترول بكميات تجارية. وفي الوقت الحالي يجري تطبيق هذا المشروع الذي عالج مشكلات أمنية إلى الأبد في شبه الجزيرة العربية، وفي بعض دول المنطقة استنساخ لتجربة عبدالعزيز قبل 110 سنوات.

وعلى غرار الدولة السعودية الأولى التي مثّل نشرُ الثقافة والتعليم في الدرعية نقاط قوتها، اتبع الملك عبدالعزيز تلك النقاط في تعميق مبادئ الدولة السعودية الأولى؛ فبعد استتباب الأمن وتوحيد البلاد بدأ المعزي في تطوير جانب التعليم والمعرفة، والتقى بعددٍ من علماء مكة المكرمة لمشاورتهم في الوسائل التي يمكن استخدامها لنشر العلم في المملكة العربية السعودية، وفي عام 1344هـ (1925م) كانت الخطوة الأولى نحو تطوير التعليم، فأسّس مديرية المعارف ومنها بدأ اهتمام الدولة بنشر التعليم الحديث في بقية مناطق المملكة، فكان اهتمامُه بالجانبين الثقافي والتعليمي سياسةً انتهجها من سياسات أئمة الدولة السعودية، وهناك مقولة رائعة للمعزي تبيّن مدى جهوده في الجانب المعرفي والثقافي، حيث يقول: "التعليم في المملكة هو الركيزة الأساسية لنحقق بها تطلعات شعبنا نحو التقدّم والرقي في العلوم والمعارف". فكان طوال مدة حُكمه ما بين تطوير وبناء في كافة الجوانب؛ سواءٌ الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، وذلك حرصاً منه على الحفاظ على المقوّمات الأساسية لمن سبقوه في سبيل بناء مجتمع حضاري تحت راية التوحيد ووحدة وطنية باسم المملكة العربية السعودية.

تاريخ الخبر: 2022-10-30 09:18:31
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 83%
الأهمية: 89%

آخر الأخبار حول العالم

"طاس" تكشف جديد قضية مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 15:27:15
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

"طاس" تكشف جديد قضية مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 15:27:13
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية