بكري الجاك
بلادنا في حالة ثورة منذ زمن طويل، ثورة هنا بمعني البحث عن مشروع وطني يمكّن كل السودانيين من إيجاد ذواتهم في الدولة التي تعبر عنهم و تعكس تنوعهم، و برؤية تنموية تأخذ في الاعتبار مكوناتنا الثقافية كثروات، و تبني علي خصوصياتنا الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية برامج تجعلنا جزء فاعل من هذا العالم بدلا من أن نكون اما متفرجين عليه أو محض أخبار عابرة حزينة في شاشاته على الدوام. و نحن ايضا في حالة حراك ثوري منذ عام 2018 و يمكن القول أننا في حالة تجريب مستمر للأدوات والوسائل التي تساعدنا على السير بشكل جماعي نحو الحرية و العدالة و المساواة. في تقديري، ما ظل يعيق قدرتنا على الدوام هو استثمارنا قصير المدي في العمل سويا و تعاطينا مع الانتقال الديمقراطي و كأنه حدث و ليس عملية طويلة و معقدة. و كما جادلت كثيرا من قبل كتابة و حديثا أنه سوف لن نتمكن من توطين الديمقراطية التي اصبحت ضرورة لوجود كيان الدولة و ليس محض نظام حكم في بلادنا، ما لم نستطيع بناء حلف استراتيجي للقوى الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي لها مصالح مادية في توطين و استدامة الديمقراطية. هذه خلاصة معرفية لتجارب الانتقال الناجحة من منظور تحليل شامل، و قد فصّلت في اضلع هذا الحلف في مقالات نشرت في عدة وسائط. يعتمد بناء هذا الحلف في الأساس على اتباع أسلوب الحوار الدائم و الاستثمار في رأس المال الاجتماعي عبر بناء الثقة بين أصحاب المصلحة في عملية الانتقال الديمقراطي. خلق مناخ صحي لاستمرار الحوار من أجل تعريف وإعادة تعريف المصالح العامة و الخاصة، الذي هو جوهر فكرة الممارسة السياسية، و الذي يتطلب فهم عميق و منهج و استثمار في حد ذاته. و ساحاول ان اطرح هنا منهجا مغايرا في عجالة.
في عام 2017 نشر Adam Kahane آدم كاهاني كتابا في غاية الأهمية لعصرنا هذا تحت اسم Collaborating with the Enemy: How to Work with People You Don’t Agree with or Like or Trust وهو ما يمكن ترجمته ب التعاون مع العدو: كيف تعمل مع أناس لا تتفق معهم ولا تحبهم ولا تثق بهم. و بشكل عام حاول كاهاني فى كتابه مساءلة فرضيتين شائعتين في مجالات علم التفاوض وإدارة المنظمات و صناعة القرارات العامة. الفرضية الأولى: أن هنالك دوائر من النخب تقوم بتعريف الأشياء و صناعة المعاني و تشكيل الرأي العام حول ماهية العالم و كيف يعمل هذا العالم، الفرضية الثانية: هي أنه بإمكاننا أن ننهج مبدأ حل المشكلات في استشرافنا للمستقبل بالتوافق على رؤية مشتركة و أهدافا معرّفة و محددة و من ثم السير في طريق واضح فيه محطات لقياس مدى تحقيق الأهداف و مدى اقترابنا من الوصول إلى النتائج المرجوة. و لمزيد من التوضيح فإن كاهاني لم يقل أن ما يعرف بالأسلوب العقلاني لحل المشكلات واتخاذ القرارات Rational Decision Making Approach غير مفيد او غير فعّال، بل جوهر حجة كاهاني أن تعقيدات العالم المعاصر (المتمثلة في عدم المساواة و التفاوتات الكبيرة في مستويات الدخول و التنافس الحاد على الموارد في ظل تحديات بيئية و تغير مناخي و اخيرا طامة صناعة الحقائق البديلة) خلقت ما يمكن أن يطلق عليه عالم ما بعد الحقيقة، وهذا الواقع يجعل المدخل العقلاني و الموضوعي غير كافي لوحده للتعاطي مع اطراف متصارعة و متنافسة و في غالب الظن غير موضوعية وغير عقلانية بفعل التحولات الكبرى التي يشهدها عصرنا.
مقترح كاهاني للتعاطي مع هذا القصور أتي في تصور متكامل اطلق عليهStretch Collaboration او ما يمكن أن يترجم اصطلاحا ب التعاون الممتد أو المستمر، و لهذا الشكل من التعاون ثلاثة مباديء و اعمدة فلسفية. أولا يجب أن نؤكد علي شرعية و قيمة اي موقف و أحقية المتبنين له و المدافعين عنه، فالايمان حقا بمثل هذا المبدأ يجعلنا نوقن ان هنالك اكثر من تصور و فهم للعالم و يجب أن تؤخذ هذه التصورات في الاعتبار، هذا القول اقرب الي مقولة شهيرة ل Neils Bohr “ for every great idea, the opposite is also true” نيل بوهر أن “ لكل فكرة عظيمة مقابل مضاد عظيم ايضا”. ثانيا، الطريق نحو المستقبل بواسطة تعلم المختلفين سويا عبر التجريب المستمر، و هنا يجب أن نتناسي فكرة التفاوض للوصول الي حد أعلي او حد أدني، و نعترف أن لكل منا فكرة و عبر التجريب المستمر فقط يمكننا أن نخلص سويا في تعلمنا الى حقيقة مفادها اي فكرة أو افكار تقارب الواقع و يمكن أن تحدث فارق. ثالثا، علينا أن نكون في حالة انتباه دائم الي ضمائرنا و ضمائر الناس من حولنا، تماهي و انسجام الانسان مع ضميره يعطيه فرصة للحضور في العالم بشكل مغاير و يمكننا من ملاحظة ماذا يحث من حولنا بدلا من الاصرار علي التأثير فيه.
الآن القوي الثورية في السودان تكاد تكون تعيش حالة أقرب إلى التشكيك الدائم في بعضها البعض و اغلب الحوارات تدور حول تصورات هذه القوى من منطلقات أخلاقية لا من حيث المحتوى، بل يتم إصدار حكم قيمي على تصورات كل طرف للآخر و ينتقل التقييم الي النوايا و الضمائر و تصبح عملية الحوار شبه مستحيلة و ان تمت فهي عبثية. ما يحدث في الوسائط هو أقرب الي الصراخ في وجه بعضنا البعض بدلا من ان نسمع بعضنا البعض، فجميعنا نتكلم في نفس الوقت أو سمه شجار بكل ما تيسر، يصر فيه كل طرف بشكل جازم على أن لوحه يحمل الفهم السديد و الصوابية الاخلاقية و لا يعطي حتى فرصة للتدبر و القبول و الاحترام. و عليه يمكننا القول أن بعض هذه القوى بدأت تري الآخر الثوري كعدو اكثر من العدو المعلن الذي يقتل ويسجن كليهما ، ويمكن القول أيضا أنهم لا يستسيغون بعضهم البعض بشكل عام و المؤكد أنهم لا يثقون في بعضهم البعض، و هذا ما يجعل تصور كاهاني مفيد في حالتنا الراهنة. حاولنا تطبيق هذا المنهج في عملية الحوار التي تمت في الدوحة على أمل أن يجد المشاركين الفرصة في الاستكشاف سويا و تعريف المشكلة و تلمس سبل الخروج.
خلاصة القول يمكن القول أن الثورة السودانية ظلت تفعل ذلك بشكل شبه لولبي و عبثي احيانا، التجريب ثم التعلم ثم التطوير، وما نحن في حاجة إليه الآن هو وضع ركائز وبناء لهذه العملية وتأطيرها لحوار مستمر يبنى على الأسس الثلاثة الواردة عن كاهاني. و ان كان هنالك كتابات في مدراس اخري للتفاوض و فضل النزاعات تتبني مناهج تشابه كثيرا هذه الأسس وبمسميات مغايرة. و ما نحتاجه حقا هو الاستثمار في رأس المال الاجتماعي و بناء الثقة لخلق هذا الحلف الاستراتيجي وبناءه علي المصالح المادية لتوطين الديمقراطية و هذا لا يتم فقط بالكتابة بل بالعمل الدؤوب وها نحن قد بدأنا و الباب فاتح للجميع للإسهام.
30 أكتوبر 2022
