في الوقت الذي ينزاح فيه الشارع الإسرائيلي نحو اليمين، شكّلَت ظاهرة إيتمار بن غفير زعيم العصبة اليهودية المتطرف، قمة جبل الجليد في مستوى التطرف الذي بدأ يأخذ منحنيات جديدة منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين في مثل هذه الأيام من عام 1995، خصوصاً بالنظر إلى مواقفه اليمينية تجاه الفلسطينيين، ورغبته في حسم الصراع معهم من خلال فرض الأمر الواقع، في استعادة لا تخطئها العين لأفكار اليمين الديني والقومي الإسرائيلي الذي مثّلَته شخصيات توقع الإسرائيليون أن تُطوى صفحتها، أمثال الحاخام مائير كاهانا الذي قُتل في الولايات المتحدة في 1990، والوزير رحبعام زئيفي الذي اغتاله مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في القدس المحتلة في 2001.

وفيما تبدو نسبة قدرة أي من الأحزاب الإسرائيلية الكبيرة على حسم الانتخابات لصالحها صعبة، بل مستحيلة، فإن ذلك منح الأحزاب الصغيرة، ومنها بن غفير ورفاقه، مساحة واسعة لابتزاز المعسكر الذي يقوده زعيم المعارضة الحالي بنيامين نتنياهو، الذي لم يتردد في القول إن بن غفير وشريكه بيتسلئيل سموتريتش سيكونان وزيرين في حكومته المقبلة، إن رأت النور، الأمر الذي استجلب ردود فعل عربية ودولية تحذّر نتنياهو من هذه الخطوة.

فمَن بن غفير؟ ولماذا بات يتصدر عناوين الأخبار، سواء ما تعلق منها بتصاعد التوتر مع الفلسطينيين، لا سيما باتجاه الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، أو نحو التنافسات الحزبية الإسرائيلية الآخذة في السخونة بانتظار يوم الاستحقاق الانتخابي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل؟

موقع الكنيست يذكر بعضاً من تفاصيل حياة بن غفير الذي لم يُتِمّ عامه السادس والأربعين بعد، وتعود أصوله اليهودية إلى العراق، ويقيم في مستوطنة "كريات أربع" بالخليل المحتلة. انتمى في أول حياته السياسية إلى حزب "موليدت"، الذي دعا إلى تهجير الفلسطينيين من إسرائيل، مروراً بحزب "كاخ" الإرهابي، وصولاً إلى حزب "الصهيونية الدينية"، واللافت أنه تم إعفاؤه من الخدمة العسكرية بالجيش بسبب مواقفه المتشددة، زاعماً أن "الجيش خسر، عندما لم يأخذني".

في فترة لاحقة درس القانون، لكنّ نقابة المحامين رفضت عضويته بسبب سجله الجنائي، لتورُّطه في مظاهرات لليمين المتطرف، وبعد حصوله على شهادة المزاولة، برز مدافعاً عن عناصر اليمين المتشدد المتهمين بارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، بما فيها الهجوم على عائلة دوابشة بقرية دوما بالضفة الغربية، التي شملت إحراقها، وقتل ثلاثة منها.

في أفكاره السياسية، يدعو بن غفير إلى طرد الفلسطينيين، وتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية بالكامل، ويعتمد على العنف ونشر الفوضى بتنفيذ آيديولوجيته الخطيرة جدّاً، التي تستهدف الوجود الفلسطيني بشكل مباشر، ويضع في بيته صورة للحاخام باروخ غولدشتاين، الذي قتل 29 مصلّياً في الحرم الإبراهيمي عام 1994، وسبق له اتهام أعضاء الكنيست الفلسطينيين بأنهم "قنبلة موقوتة"، ووجهت إليه المحاكم الإسرائيلية أكثر من 50 اتهاماً بارتكاب أشكال مختلفة من التحريض.

على أرض الواقع، بدا بن غفير أكثر ثقة بقدرته على أن يتولى مع رفاقه مناصب وزارية في حكومة يقودها نتنياهو، إن قُدّر له أن يشكّلها، رغم أن هذا سيناريو ليس قويّاً جدّاً، مع عدم استبعاده نهائيّاً، لكن نتنياهو وفق ما ذكرت ديفنا ليئيل مراسلة الشؤون الحزبية في القناة 12، يبدو مضطرّاً إلى ضمّ هذا المتطرف إلى قائمة وزرائه، رغم ما بلغه من تحذيرات إقليمية ودولية، ولعل هذا ما جعله في واحدة من الفعاليات الانتخابية من عدم رغبته بأخذ صورة تذكارية تجمعهما معاً في محاولة لتخفيف الضغط الدولي عليه، لا سيما الأمريكي، حسب القناة 12 كما جاء على لسان أوري إيزاك.

مع العلم أن أوساط حزب الليكود لا تُخفي تصاعد أسهم بن غفير الانتخابية، مما قد يجعله وفق بعض الاستطلاعات القوة الحزبية الثالثة في الكنيست المقبل، بعد الليكود بزعامة نتنياهو، و"يوجد مستقبل" برئاسة يائير لابيد، إلى الدرجة التي جعلت أوساط نتنياهو تخشى من سحب بن غفير البساط من تحت أقدامه، وتحويله إلى عنصر أساسي في الائتلاف الحكومي القادم، مما يعني فرض أجندته اليمينية الخاصة بالفلسطينيين، وفقاً لما ذكره نداف شرغاي الكاتب في صحيفة إسرائيل اليوم.

الأوساط الحزبية الإسرائيلية أظهرت انشغالاً لافتاً بظاهرة بن غفير، كونه قد يشكّل مع مرور الوقت "بيضة القبان" في مستقبل الحكومة القادمة. صحيح أن الساحة الحزبية في عمومها تتجه نحو اليمين، بشِقَّيه الديني والقومي، لكن هذا المرشح يبدو أنه يتجاوز كثيراً من نظرائه اليمينيين في مواقفه العدائية تجاه الفلسطينيين، مما يأخذ المواجهة معهم إلى زوايا آيديولوجية يمكن وصفها بـ"تديين الصراع"، وفي هذه الحالة سينضمّ باقي المسلمين إلى الفلسطينيين، مما سيبعد أي أفق لحل الصراع.

آخر التفاعلات الإقليمية والدولية من مغبَّة انخراط بن غفير ورفاقه في الحكومة القادمة جاءت خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ الولايات المتحدة يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول، حين استمع من أوساط الإدارة الأمريكية التي التقاها، سواء الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ما اعتبرها باراك رابيد المراسل السياسي لموقع ويللا الإسرائيلي مخاوف أمريكية جدية من ضمّ نتنياهو لشخصيات أمثال بن غفير إلى حكومته، لأن من شأن ذلك تعقيد الصراع مع الفلسطينيين، وإعلان وفاة لحل الدولتين معهم.

لم تتوقف المخاوف الأمريكية عند أقطاب الإدارة الحاكمة، بل إن النائبين في الكونغرس روبرت مننديز وبراد شيرمان، حذّرا نتنياهو من انضمام بن غفير إلى حكومته، لأن ذلك يعني الإضرار بعلاقات إسرائيل مع حليفتها الأولى في العالم، مما دفع نتنياهو ذاته إلى رفض هذا التحذير، بزعم أنه تدخُّل في العملية الانتخابية الإسرائيلية، حسب تقرير لمراسل صحيفة هآرتس ألون بنكاس.

يمكن قراءة المخاوف الأمريكية من تشكيل حكومة إسرائيلية يمينية يكون فيها بن غفير وزيراً، من الفرضية الأمريكية القديمة الجديدة، ومفادها القلق من استعادة حقبة الرئيس السابق باراك أوباما حين عاصر نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية بين عامَي 2009 و2016، فيما كان بايدن نائباً للرئيس، مما قد يعيد ذات التوتر بين تل أبيب وواشنطن إلى سابق عهده، في ظلّ الخلافات القائمة بينهما، سواء في الملف الفلسطيني والملف الإيراني.

مع العلم أن بن غفير الذي يدرك أكثر من سواه الرفض الأمريكي لوجوده وزيراً في الحكومة القادمة، سبق له أن اتهم رئيس الحكومة الحالية يائير لابيد بأنه حوّل إسرائيل إلى "محميَّة" أمريكية، لأنه يتبع سياسة واشنطن في جميع الملفات، بما فيها الاتفاق النووي الإيراني، وترسيم الحدود البحرية مع لبنان، والعلاقة مع الفلسطينيين، بل إن آيالا حسون مراسلة القناة 13، نقلت عن بن غفير أن لابيد يحرّض المسؤولين الأمريكيين عليه.

في المواقف العربية والإقليمية من هذه التطورات الإسرائيلية المتلاحقة، أبدى وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد مخاوفة من ضمّ بن غفير ورفاقه إلى حكومة يقودها نتنياهو، برسالة تم تمريرها خلال زيارة بن زايد لإسرائيل في سبتمبر/أيلول، لأن ذلك من شأنه تقويض العلاقات بينهما. وقد نقلت صحيفة معاريف عن أوساط دبلوماسية إسرائيلية أن نتنياهو طمأن الإمارات بأنه يتعامل مع الأمر، دون تفاصيل.

الخلاصة من هذه التطورات الإسرائيلية، أن بن غفير لم يعُد شأناً إسرائيلياً داخلياً، صحيح أن إسرائيل كلها ليست شأناً يخصّ الإسرائيليين فحسب، لكن هذا اليميني المتطرف استطاع أن يتجاوز الاستقطابات الإسرائيلية الداخلية ليصبح مدار حديث الساسة، ربما بسبب تخوفهم من قدرته على جلب إسرائيل لمزيد من التطرف واليمينية، مما سيترك تبعاته السلبية على علاقاتها الخارجية العربية والإسلامية والدولية على حد سواء.

مع العلم أن الحقبة التي قادها نتنياهو بين عامَي 2009 و2021 رئيساً للحكومة، شهدت فيها إسرائيل قطيعة مع العديد من دول المنطقة والعالم، سواء الولايات المتحدة التي شهدت توتراً غير مسبوق في علاقاتهما، والاتحاد الأوروبي الذي وقف مجلس شراكتها بسبب سياسات نتنياهو ضدّ الفلسطينيين.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي