مالية 2023.. انتكاسة الطبقة الوسطى و الوساطة السياسية
مالية 2023.. انتكاسة الطبقة الوسطى و الوساطة السياسية
حملت أحلام مشروع قانون المالية لسنة 2023 شعارات كثيرة على رأسها تنزيل مصطلح هجين إسمه الدولة الإجتماعية. حاولت أحزاب الأغلبية أن تتملك الشعارات رغم ما يفرق بينها و سوف يفرق بينها أكثر في مستقبل قريب و لكن الواقع صعب للغاية. الدولة الإجتماعية لا علاقة بالاختيارات الليبرالية التي افقرت الكثيرين عبر العالم و التي لا يهمها إلا ” قانون السوق” و لا يجب أن تكون شعارا لمن يحمي الأرباح الاستثنائية من ضرائب استثنائية. من يدافعون عن الليبرالية و قانون عدم التدخل في فعل سحر السوق على توازنات مفترضة بين العرض و الطلب، هم من يحملون شعار ما سموه بدولة اجتماعية. إذا كان الأمر كذلك فالسؤال الذي يجب أن نطرحه هو ” هل كانت الدولة غائبة عن التوازنات الإجتماعية” قبل وصول الحكومة الحالية.
بالطبع لا و ألف لا. القضية الإجتماعية كانت في صلب الإهتمام السياسي منذ بداية الاستقلال قبل ما يقرب من سبعة عقود. و للتذكير، فقبل أن يذكر إسم عزيز اخنوش في فضاء ممارسة السياسة و ربما في الحالة المدنية و غيره من حلفاءه، وقف ملك شاب إبن ملك كبير و كان لخطابه و فعله وقع كبير على من كانوا ينتظرون العدالة الإجتماعية. و في أول خطاب له موجه للشعب، قال أن التغيير برنامج و يحتاج إلى العمل و أنه كملك لا يحمل عصا سحرية.
مرت سنوات قليلة و بدأ الإشكال الإجتماعي يطرح نفسه كأولوية في سياسة دولة حركت قضايا دستورية و اجتماعية و حقوقية و اقتصادية في بداية مرحلة جديدة في مغرب ما بعد رحيل الحسن الثاني. الدولة في أعلى تعبيراتها، اختارت القضية الإجتماعية كأساس للبدء و حرص الملك محمد السادس على ضبط و تسريع إيقاع الإصلاحات الإجتماعية و هو يعلم يقينا أن العدالة الاجتماعية مفتاح الدخول إلى مضمار التغيير و إعطاء مدى جديد لممارسة الحكم و الحكامة.
و هكذا تحولت وزارة الداخلية إلى الفاعل الأساسي في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية . و أستمر دورها يكبر كل يوم في مجال الحكامة الترابية رغم مشروع الجهوية المتقدمة. و أصبح المهندسون محور كل شيء في التدبير العام. قليل من هذه الفئة المهنية عاشوا مرحلة التكوين السياسي للمهندسين في الخارج و في الداخل من خلال أم المدارس ” المدرسة المحمدية للمهندسين ” و جاءت بعدها معاهد و مدارس كونت جيلا كسب العلم و الخبرة و التكوين السياسي في بعده الوطني. و بعدها تطورت أساليب تدمير ماض قريب. غادر كثير من المهندسين ميدان البناء و التعمير و التدبير إلى مجالات لم يعرفوها من قبل. و رغم ذلك استمر الإهتمام بالقضية الإجتماعية من خلال التغطية الصحية للفقراء و تنزيل التأمين الإجباري عن المرض وصولا إلى المشروع الاستراتيجي المتعلق بالتغطية الإجتماعية الشاملة. كل هذا، للتأكيد على اختيارات الدولة المغربية كانت ذات طابع اجتماعي منذ الاستقلال . و زاد زخم هذا الإختيار مع الإرادة التي عبر عنها ملك البلاد منذ سنين. الدولة الإجتماعية ليست مفهوما للاستهلاك السياسي و للاستغلال الايديولوجي.
و بالرجوع إلى واقع اليوم، قد نعي بكثير من الأسف و الحسرة تراجع الإهتمام بالشأن العام و باستشراء الجهل في طبقة من النخبة التي تخدم مصالح طبقة دون وعي بدورها في مسار يقود حتما إلى الانحطاط. و هذا ما هو واقع بالفعل اليوم مع طبقة “سياسية ” ضعيفة و مهلهلة الانتماء الحزبي و السياسي.
من يقرأ معطيات مالية 2023 قد يقول بتفاؤل أن الميزانية ستصل إلى مصاريف بقيمة 600 مليار درهم. و قد يبتهج لوعود في مجال التشغيل و القدرة الشرائية و الخدمات الإجتماعية. و بعد سنة ستعيد الحكومة طرح نفس الوعود و سيستمر الوضع على ما هو عليه. قل ما شئت فلن يحاسبك أحد. قال البرنامج الحكومي أن الوضع سيتغير بعد سنين قليلة. و مرت السنة الأولى و كان الخطاب على موعد مع الوعود. الظرفية الدولية دفعت بهؤلاء الغيورين الوطنيين الأحرار الوزراء و النواب إلى الرفع من مخصصات صندوق المقاصة و إلى دعم مهنئي النقل. أعجوبة في زمن النسيان. القليل قد تذكر أن حكومة عباس الفاسي الاستقلالي خصصت للمقاصة 45 مليار درهم و التزمت باتفاقيات اجتماعية مكلفة. و القليل يعلم أن المغاربة قد كانوا ضحية تمجيد الليبرالية و حرية الأسعار منذ 2015. و هذا ما قاله