الصّراع مع الغرب: القديم الذي لا يُملّ من تجديده


في العادة، يسود في العالم العربي الكثير من لوم الآخرين، من قوى خارجية أو ظروف قاهرة، لشرح أسباب الفشل العربي العام في صناعة تجارب دول ناجحة على صعيد التنمية الاقتصادية والحريات السياسية ورصانة المؤسسات المرتبط وجودها وأداؤها بخدمة المجتمع، والدفاع عن مصالح الناس العاديين، لا مصالح النخبة الأقلوية المهيمنة على مصادر النفوذ والثروة والقرار.

تاريخياً، اتجه كثير من هذا اللوم المعتاد نحو غرب قوي يُفترض أنه متآمر وساع لاستغلال الثروات العربية لأغراضه الأنانية المتنوعة، أو إلى نخب حاكمة منقادة لهذا الغرب ومتواطئة معه ومستفيدة منه، وبالتالي فهي "عميلة" له. يسترجع هذا التفسير حساً مزيفاً بالمواجهة صنعته نخب سياسية وثقافية لم تستطع الإفلات من أسر الأيديولوجيا في زمن ماض. لم يخضع هذا الحس، بلحظته التأريخية التي أنتجته، لتفكيك جدي، حتى بعد نفاد ما تبقى من صلاحيته التوصيفية التي هي موضع شك في المقام الأول. الأكثر مدعاة للقلق أن هذا الفهم يُعاد إنتاجه وترويجه في السنوات الأخيرة بتسميات جديدة يقوم جوهرها على صراع عربي/إسلامي مع الغرب، بتخريجات طابعها ديني.

لم يكن مثل هذا التفسير، في شكله القديم، عابراً أو استهلاكاً إعلامياً قصير المدى، أو محاولة خداع مقصودة من أقلية مستبدة تتحكم بصناعة الرأي وترويجه في أوساط أغلبية جاهلة أو غير متعلمة، بل كان جزءاً تعريفياً من خطاب راسخ ومنتشر، تتشارك في إعادة إنتاجه وإيجاد تمثلات دائمة ومفتوحة له في قضايا السياسة والاقتصاد، معظم نخب الثقافة والسياسة والإعلام والمجتمع. لم يقتصر هذا الخطاب على النخب التي أنتجته، بل تعداها إلى الجمهور بما يتضمنه من أناس عاديين كانوا يمنحون أسلوب التفكير هذا شرعيته الشعبية وعمقه الاجتماعي والنفسي.

بدأ الترسيخ السياسي والثقافي لهذا الخطاب في خمسينات القرن الماضي، مع بروز مصطلحي التقدمية والرجعية في الحياة السياسية العربية بحس الصراع المتصاعد بينهما، عبر القوى التي يُفترض أن يمثلها هذان المصطلحان: "القوى التقدمية" و"القوى الرجعية". دعت القوى التقدمية، من شباب متعلمين ونخب عسكرية حاكمة ومثقفين متنوعي المشارب، إلى إدخال مكتشفات الحداثة الأوروبية وقيمها إلى المنطقة في سياق تكييفها مع الحاجات والوقائع العربية. عنى هذا تبني النظم الحديثة في إدارة الحياة العامة كالمدارس والمستشفيات والمحاكم وبقية الخدمات والمؤسسات المرتبطة بالدولة الحديثة القائمة على مفهوم المواطنة المتساوية، هذا الحق القانوني الذي تضمنته الدساتير العربية والإعلانات العامة المتكررة لساسة الحكم، لكن بقي عملياً طموحاً سياسياً وحلماً شعبياً وليس واقعاً مؤسساتياً محسوساً في حياة المجتمع.

على الجانب الآخر، وقفت ما كانت تسمى بالقوى الرجعية، ممثلةً بالبنى التقليدية المهيمنة كالجماعات العشائرية والدينية والعُصب المحلية/المناطقية، فضلاً عن جمهور واسع محافظ داعم لهذه البنى، ومؤمن بها بوصفها تعبيراً بديهياً عن الحقيقة المطلقة المتوارثة جيلياً، وجاءت الحداثة الأوروبية لتتحداها وتقوّض هيمنتها على المزاج والحيز العام. قبلت هذه القوى تدريجياً بالاكتشافات المادية والتنظيمية لهذه الحداثة، كنظم النقل والصحة والتعليم، لكنها بقيت على رفضها القبول بالقيم المصاحبة لهذه الاكتشافات، والتي قادت إلى تشكيلها في المقام الأول، كحرية التفكير التي تصل إلى حد التشكيك بالموروث، والمساواة وتمكين المرأة وسواها من قيم الحداثة التي وجدت طريقها إلى حياة المجتمع بمقادير مختلفة، لكن من دون أن تترسخ عميقاً فيه أو تعيد صوغه على أسس جديدة.

هذا الصراع بين قوى الحداثة والتقليد طبيعي ولا يشكل استثناءً، إذ مرت به مجتمعات كثيرة في أزمنة التحولات الكبرى، كما حصل في أوروبا نفسها في القرنين الثامن والتاسع عشر.

في الحقيقة، تعود جذور هذا الصراع عربياً إلى الحقبة العثمانية، حين كان معظم العالم العربي واقعاً تحت الحكم العثماني الذي هيمنت عليه البنى التقليدية على مدى قرون طويلة. جاء التحدي الأول لهذه البنى في العقد السادس من القرن التاسع عشر، عندما تشكلت "العثمانية الشابة"، الحركة التي أنشأها وتصدرها شباب عثمانيون إصلاحيون ذوو توجهات ليبرالية اصطُلح عليهم تالياً تسمية "العثمانيين الشباب". حاول "العثمانيون الشباب" تحديث الإمبراطورية المترامية الأطراف عبر تحويلها إلى ملكية دستورية وإدخال إصلاحات أساسية، مستوحاة من الحداثة الأوروبية في حقول السياسة والقانون والتعليم، وغيرها من مناحي الحياة العامة في سياق جريء وغير مسبوق، يزاوج بين الوطنية العثمانية والليبرالية الأوروبية والروح الإسلامية العامة.

اتسعت "العثمانية الشابة" واجتذبت الكثير من المثقفين والضباط العرب، خصوصاً في إطار تأكيدها المساواة التامة بين كل رعايا الإمبراطورية من أتراك وغيرهم، واحترام الخصوصيات المحلية المرتبطة بالتنوع. كانت "العثمانية الشابة" حافزاً لهؤلاء العرب للمطالبة بإدخال إصلاحات جدية في الولايات العربية التي اعتبرت متأخرة مقارنة بغيرها وهي تخوض صراعها الناشئ، والخجول أحياناً، بين الحداثة والتقليد. واجهت "العثمانية الشابة" معارضة شرسة وقوية من القوى التقليدية الراسخة، تصدرها السلطان عبد الحميد الثاني نفسه، أدت إلى تعطيل إصلاحاتها طويلاً إلى أن جاءت وريثتها السياسية "تركيا الفتاة" في مطلع القرن العشرين لتهزم هذه المقاومة التقليدية وتعزل السلطان نفسه في 1909. تحمس الإصلاحيون العرب كثيراً لـ"تركيا الفتاة"، لكنهم سرعان ما انفضوا عنها بعدما ظهر خطابها وسلوكها التمييزي في الحكم بإزاء العرب والأقوام غير التركية في الإمبراطورية التي كانت على درب الزوال في خلال سنوات قليلة تالية، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.

في ظل الهيمنة الأوروبية، البريطانية الفرنسية، على المنطقة التي أعقبت السيطرة العثمانية، عاد صراع الحداثة والتقليد بحدة عالية في ظل تبني الانتداب الأوروبي التحديث القسري في مناطق هيمنته العربية. تأطر هذا الصراع حينها بتسميات ثنوية مرتبطة بمقياس مفترض للتقدم بإزاء "التخلف"، لتبرز عبره ثنائية التقدمية والرجعية (وفي بعض الاستخدامات الأولى كانت "الرجوعية" من الرجوع). لكن في تلك العقود لم يكن لهذا الصراع مدلول سياسي واضح أو صريح أو تعريفي، بل كان مدلوله الأساسي اجتماعياً وتنموياً في سياق التحديث، بمعنى تبني الجديد والتحرر من القديم في سياق مجتمعات عربية باحثة عن هوية مطمئنة لها وسط عالم أوسع متغير.

بروز القومية العربية التي تعود بداياتها إلى أواخر العهد العثماني، في الخمسينات فصعوداً كحركة تحرر عربي واعدة ضد هيمنة غربية مفترضة، هو الذي قاد إلى منح هذين المصطلحين بعدهما السياسي والأيديولوجي الصارخ، عبر توظيف الآخر الغربي كخصم دائم وقوي لذات عربية ساعية إلى النهوض من "ركام التخلف" الذي يحاول هذا الآخر المفترض إعادة إنتاج شروط استمراره. تعزز هذا البعد أكثر حينها بتبني الكثير من قوى اليسار العربي فهماً شبيهاً للصراع الذي يحرك المنطقة.

رغم تراجع القومية العربية واليسار التقليدي منذ تسعينات القرن الماضي، تعود تصنيفاتهما الأيديولوجية الثنوية اليوم إلى الحياة عبر تخريجات دينية تتبناها قوى الإسلام السياسي، كما في "محور المقاومة" الذي ترعاه وتقوده إيران.

* نقلا عن "النهار"

تاريخ الخبر: 2022-11-15 12:18:29
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 75%
الأهمية: 93%

آخر الأخبار حول العالم

حسام غالي: حلم مشروع أن أكون رئيس للأهلي لكني لا أخطط له

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 06:08:10
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 41%

طقس الأحد.. ثلوج وأمطار رعدية بعدة مناطق من المملكة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 06:08:32
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 75%

عاجل.. مؤتمر “الاستقلال” يختار نزار بركة أمينا عاما لولاية ثانية

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 06:08:34
مستوى الصحة: 66% الأهمية: 76%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية