منذ أول يوم لاندلاع الحرب في أوكرانيا تبنت تركيا الموقف الدبلوماسي الأكثر اعتدالاً إزاء النزاع الدموي الدائر. أولاً عبر إدانتها استعمال القوة العسكرية واعتبار ذلك خرقاً للقانون الدولي وبنود اتفاقية الأمم المتحدة، وتشديدها على دعم سيادة أوكرانيا على كامل أراضيها.

وهو ما جرى تجسيده على الأرض عبر قرار تفعيل "اتفاقية مونترو" ورفض استخدام مضيقَي البوسفور والدردنيل كمسارات بحرية لنقل العتاد العسكري.

وثانياً من خلال الحفاظ على خيط العلاقة مع موسكو، بل وتنشيط هذه العلاقة عبر عدد من الاتصالات واللقاءات التي جمعت الرئيس أردوغان ونظيره الروسي بوتين، منذ ذلك الوقت، للبحث عن حل مشترك للأزمة ورجوع الاستقرار والسلم إلى المنطقة، وتخفيف تبعات الحرب الكارثية على الأمن الغذائي العالمي.

وجعل هذا الدبلوماسية التركية تتبوأ مركز الريادة في الوساطة بين البلدين المتحاربين، وتصبح الوسيط الوحيد بين الغرب وروسيا. إضافة إلى هذا ظلت أنقرة وفية لالتزاماتها الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة، ووفية لحلفائها في حلف الشمال الأطلسي.

هذا الدور المحوري الذي أصبحت تركيا تلعبه داخل أكبر نزاع مسلح يعرفه العالم اليوم، لم يُرضِ عدداً من الأطراف الدولية، على رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي عبر عن ذلك في أكثر من مرة. غير أن ماكرون بهذا يكشف كذلك عن تناقضات خطيرة. فمن ناحية ينتقد تركيا وقيادتها السياسية، ومن ناحية أخرى يحاول التشبه بنهج أردوغان في قيادة هذه الأزمة.

ينتقد أردوغان ثم يقلده!

"لا يجب علينا أن نترك تركيا وحدها تحتكر خيط التواصل مع موسكو"، هكذا هاجم إيمانويل ماكرون عمل أنقرة في التوسط بين روسيا وأوكرانيا لإيجاد حل للأزمة بينهما. كان ذلك في سبتمبر/أيلول الماضي خلال لقاء جمعه بسفراء بلاده دافع خلاله عن رغبته في استئناف الحوار مع بوتين.

لكن لمَ هذه النبرة الهجومية ضد تركيا إذا ما كانت نية الرئيس الفرنسي الاتصال بنظيره الروسي؟ "لقد اشتممنا رائحة حقد أو ربما هي الغيرة"، يجيب الكاتب الفرنسي آلان فراشون. هذه الغيرة والحقد اللذان يلخصهما محلل فرنسي آخر هو ديدييه بييون في أن "السيد ماكرون، من جانبه حاول الحفاظ على الحوار مع الطرفين (أوكرانيا وروسيا)، لكن بنتائج لم ترقَ إلى مستوى الآمال المعقودة على ذلك، بالمقابل نجح أردوغان في لعب هذا الدور".

وانتقدت الصحافة الفرنسية ماكرون في مناسبات عدة منها ما قاله المحلل السياسي المعروف بيير هاسكي، وصاحب البرنامج الإذاعي "جيوبوليتيك" الذي يبث على أمواج "فرانس أنتير": "منذ ثلاث سنوات وماكرون يدعو للحوار مع بوتين، وخلال ذلك حدث الكثير، بدءاً بغزو أوكرانيا من قبل روسيا. لم يغير الحوار المكثف بين إيمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين شيئاً، إلا بشكل هامشي... فلماذا الاستمرار؟".

وأضاف هاسكي أن "هذا الاحتكار التركي أصبح يزعج باريس التي تعتقد أن أوروبا ستخسر الكثير بتجنب الحوار مع موسكو.. يمكن لماكرون أن يعتبر نجاح تركيا مفيداً جداً، فالرئيس التركي أردوغان رغم كونه عضواً بحلف شمال الأطلسي، هو الشخص الوحيد الذي يحظى بآذان مصغية لدى بوتين، وإسطنبول كانت المدينة التي احتضنت المفاوضات الروسية-الأوكرانية المهمة الوحيدة في مارس/آذار، وكانت تركيا هي التي ناورت لرفع الحصار الروسي عن الحبوب الأوكرانية".

ورغم هجومه الدائم على تركيا يصر ماكرون أن يحذو حذوها ويقلد عمل أنقرة بمواصلة الحوار مع بوتين. وهو ما أعلن عنه الإليزيه سابقاً في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حول أن الرئيس الفرنسي "سيواصل الحوار" مع نظيره الروسي بعد قمة العشرين الأخيرة.

نجاح تركي ينسبه ماكرون إلى نفسه؟

ويتمثل أكبر نجاح لمساعي الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا في إنقاذ العالم في مناسبتين من وقوع أزمة غذاء عالمية عبر مساعي عقد اتفاق يسمح لأوكرانيا بتصدير وارداتها من الحبوب وجهود إنقاذ الاتفاق بعد إعلان روسيا الانسحاب منه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وبفضل هذه الجهود نجحت أوكرانيا بتأمين تصدير أكثر من 11 مليون طن من حبوبها، وفق ما صرَّح به رئيس البلاد فلودمير زيلينسكي. كما جرى الاتفاق على توريد الحبوب الروسية مجاناً إلى الدول الفقيرة، في وقت يتعرَّض فيه العرض الدولي من هذه الحبوب إلى ضغوط إضافية، أهمها الجفاف بالأرجنتين والأمطار الغزيرة في أستراليا التي أوشكت على إتلاف محاصيل القمح.

ولقي هذا النجاح الدبلوماسي التركي إشادة واسعة من المجتمع الدولي. وهو ما أعرب عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قائلاً: "لولا كرمهم (الأتراك) والتزامهم لما كانت هذه المبادرة لتولد.. ولا تزال (تركيا) مركز نجاح دبلوماسي استثنائي". كما شكر زلينسكي وبوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على استمرار اتفاقية تصدير الحبوب، على أنه "الرجل الذي يوفي دوماً بوعوده" حسب وصف بوتين.

هذه الإشادة لم يستسغ حاكم الإليزيه على ما يبدو أن تُوجَّه إلى تركيا ورئيسها، لذلك عمل على تهميش الدور التركي فيها تارة، وذلك ما عبر عنه خلال كلمته أمام قمة الدول العشرين، حين شكر "جهود الجميع" في إنقاذ العالم من أزمة غذائية، دون أن يشير إلى دور أنقرة المحوري.

وتارة أخرى حاول أن ينسب إلى نفسه دوراً بمحادثات استمرار اتفاقية الحبوب، مع العلم أنه لم يكن له أي دور. وتحدث خلال تغريدة عقب لقائه أردوغان الثلاثاء الماضي عن "مواصلة العمل مع تركيا لاستمرار صادرات الغذاء الأوكرانية".

وبالتالي نحن أمام ظاهرة فريدة في العلاقات الدولية، إذ يهاجم رئيس دولة نظيره من بلد آخر، لكن في الوقت نفسه يسعى جاهداً للتشبه به، بل ويسعى لمصادرة نجاحاته ونسبها إلى نفسه.

TRT عربي