على ضفاف حوض البحر المتوسط تُعتبر آثار مدينة لبدة الكبرى من أهمّ الآثار في ليبيا، إذ تضاهي في أهميتها مدينة بومباي جنوبي إيطاليا.

وتعتبر مدينة متكاملة لاحتوائها على مبانٍ إدارية وميناء كبير. وقد حظيت المدينة باهتمام بالغ من الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، الذي أمر بتشييد مبانٍ عديدة لها في عهده.

تُعَدّ المدينة من أروع المواقع الأثرية الرومانية التي شهدت على حضارات ما قبل التاريخ، واليوم يحرسها متطوعون خشية تَعرُّضها للتخريب في ظلّ الأحوال الأمنية التي تعانيها البلاد، فضلاً عن تراكم النفايات في ممراتها وكتابة عبارات على جدرانها في إهمال واضح للقيمة الأثرية التي تمثّلها هذه المدينة.

مبادرات فردية

في ساحة انتظار السيارات بمدخل المدينة الأثرية يجلس الخمسيني نجيب بن عامر على كرسي الانتظار، وهو متطوع لحماية المدينة الأثرية بلا مقابل منذ 11 عاماً.

يقول نجيب بن عامر لـTRT عربي: "تربينا ونحن أطفال في المدينة وبين آثارها، فهي مقصد للسائحين من داخل وخارج ليبيا، ونحمي المدينة منذ عشر سنوات بلا أي مقابل، بل بدافع وحسّ وطني".

ويتابع بن عامر بأنه "يرى التخريب وعدم الاهتمام بقيمة الآثار الموجودة من الزوار الذين يعبثون فيها"، مشيراً إلى أن كل ذلك نتيجة الصراعات السياسية وانشغال المسؤولين بمصالحهم الشخصية وعدم اهتمامهم بثروات بلادهم التي تحقّق الملايين إذا فكروا في الاستثمار السياحي وتنشيطه".

من الأثار الرومانية في مدينة لبدة الليبية (Others)

يأتي نجيب يومياً إلى مدينة لبدة ويُمضِي فيها كل أوقاته، ويتعاون مع متطوعين آخرين لمسح الكلمات الخاصة التي يكتبها الزوار، ويساهم في نظافة صرح تاريخي بقى شامخاً لقرون طويلة.

أحد الزوار كتب كلمة "أحبك" على قوس سبتيموس سفيروس الذي شُيّد في القرن السابع قبل الميلاد بمدخل المدينة الذي شكّل حصناً منيعاً لحماية المدينة من الغزاة في ذلك الوقت.

وتشمل الحماية التي يقدمها نجيب وأمثاله حالات السرقة والحرائق والعبث وتشويه الجدران، فضلاً عن نظافة المدينة.

يعاني الموقع الأثري مشكلات عديدة، أبرزها غياب سياج يحميها، فهي مفتوحة من جهاتها الأربع، فلا سور يحميها ليتحكم في دخول وخروج الزوار.

بدوره يؤكد الباحث في مجال الآثار سالم أبو شيبة، تَعرُّض بعض حوائط المسرح الروماني للكتابة عليه بالحبر الأسود، معبّراً عن خطورة مثل هذه الانتهاكات على الأماكن الأثرية.

وأشار أبو شيبة إلى المطالبات المستمرة بإخراج المواقع الأثرية في ليبيا من لائحة الخطر في ظلّ تَعرُّضها المتواصل للتخريب والعبث، على الرغم من أنها تحت حماية ورعاية الشرطة السياحية وحماية مصلحة الآثار.

تهميش متعمد

من جانبه يقول أستاذ التاريخ محمود عبد الرحمن إن "عدم وجود رؤية رسمية للدولة الليبية في صون التراث الثقافي والمحافظة على الهوية الثقافية للبلاد انعكس سلباً"، ويشير عبد الرحمن إلى "جهل بمستوى الخسارة التي لا تُعوَّض، والتي تلحق بمعالم الموقع الأثري".

وأكد أستاذ التاريخ وجود عصابات تنهب وتهرِّب الآثار الليبية إلى الخارج، وهذه العصابات لديها أهداف تجارية غرضها بيع الآثار وكسب المال من وراء ثروات بلادهم.

وختم حديثه بأن "مافيا نهب الآثار قد ترتبط ببعض الدول الأجنبية عن طريق مسؤولين ليبيين"، لافتاً بهذا الصدد إلى امتلاء متاحف العالم بآثار ليبيا المسروقة، بخاصة بعد الإطاحة بحكم معمر القدافي في فبراير/شباط 2011.

من جهته يقول مسؤول ليبي لـTRT عربي إن "عديداً من المواقع الأثرية في مدينتَي الخمس ومسلاتة تحديداً اكتُشفت إما بالصدفة وإما عن طريق تنقيب ونبش مواطنين، ولم يكن اكتشافها وفق دراسات علمية وبحوث وتنقيب علمي"، مطالباً في الوقت ذاته الجهات المتخصصة كالجامعات والفرق العلمية بالقدوم إلى ليبيا وإجراء عمليات تنقيب علمية "حتى لا يبيعها أو يهرّبها إلى الخارج ضعاف النفوس"، على حد وصفه.

من آثار الرومانية في مدينة لبدة الليبية (Others)

وتؤكّد تقارير سابقة لخبراء الآثار، أن في ليبيا مئات المواقع الآثرية المطمورة تحت مياه البحر المتوسط أو تحت رمال الصحراء، إذ أشار تقرير لفريق تنقيب تابع لجامعة "لستر" البريطانية إلى أن 70% من الآثار الليبية لا يزال مطموراً، في حين يعاني الإهمالَ كثير من الآثار المكتشَفة.

حرائق مفتعَلة

تتعرض البلدة الأثرية من وقت إلى آخر أيضاً لحرائق متعمدة. يقول مراقب آثار لبدة عز الدين الفقيه لـTRT عربي إن "العابثين كانوا يرمون أي مواد قابلة للاشتعال في الأعشاب الجافة والأشواك وسط المدينة الأثرية، وساهم جفاف هذه الأعشاب وارتفاع درجات الحرارة في اشتعال النيران وانتشارها بقوة"، ويضيف أن حل مثل هذه المعضلة كان عبر بعض الطرق التقليدية مثل السماح للرعاة بإطلاق أغنامهم لأكل الحشائش اليابسة.

ويؤكّد مراقب الآثار خلال حديثه مع TRT عربي "حاجة البلدة إلى عملية ترميم عاجلة تشمل أسوار المدينة وبعض من مبانيها، وتأهيل المدينة بأنظمة حماية وأجهزة مراقبة وتوثيق علمي للقطع الأثرية الموجودة بها"، مضيفاً أن "80 بالمئة من الآثار لا تزال مغمورة تحت الأرض ولم تُكتشف بعد".

قبلة للزوار

يصل الزوار من الليبيين بالعشرات فقط. يقول حسين مكادة خلال زيارته للمكان: "أول مرة أزور فيها آثار مدينة لبدة الكبرى"، معبّراً عن دهشته لوجود مثل هذه الآثار في بلاده، ويضيف بأسىً: "أشعر بالإحباط واليأس من الإهمال الذي طال المكان".

بدورها تقول فوزية البغدادي إن "لبدة تفتقر إلى الاهتمام وإقبال السياح"، منوهة بأن "المسؤولين يقتاتون من الميزانية أكثر مما يصرفون على صيانة وحماية الموروث الليبي، كما أنهم غير مؤهلين لإدارة هذه المؤسسات التي لا تُقدَّر بثمن".

وفي ليبيا عديد من المواقع المدرجة على قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة التربية والعلم والثقافة (يونسكو)، إذ أصبحت هذه المواقع معرَّضة للخطر بسبب الاضطرابات والصراع.



TRT عربي