"ختان الإمبراطور".. صفحات من تاريخ إفريقيا الوسطى والقذافي وفرنسا


تتواصل أعمال العنف في إفريقيا الوسطى، الجمهورية الواقعة في قلب القارة السمراء، ما تسبب في مقتل الآلاف ونزوح نحو مليون شخص منذ بداية الأزمة أواخر عام 2013.

هذا البلد غرق في السنوات الأخيرة في الفوضى والحرب الأهلية، فيما كان متماسكا في فترة حكم رئيسه الثاني بعد الاستقلال ويدعى جان بيدل بوكاسا. الرجل الذي تناقضت الروايات حوله، وفيما كان يصفه البعض بأقبح النعوت، رأى آخرون أنه رجل دولة من طراز رفيع.  

في فترة السبعينيات كان للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي دور نشط في القارة الإفريقية، وكانت علاقاته بزعماء العالم لا تخلو من مواقف مثيرة وحكايات يبدو بعضها لغرابته، كما لو أنه نُسج من وحي الخيال..

مثل هذه الحكايات والمواقف جرى بعضها مع عدد من القادة الأفارقة المثيرين للجدل، وخاصة مع أولئك الذين يتصفون بغرابة الأطوار.

ما جرى بين معمر القذافي وجان بيدل بوكاسا وفرنسا في السنوات الأخيرة لعهد هذا الزعيم الإفريقي، له نكهة خاصة، هي مزيج من الواقع الغريب والخيال والمأساة، ويد الدعاية السوداء.

جان بيدل بوكاسا وصل إلى السلطة في إفريقيا الوسطى في انقلاب عسكري مطلع عام 1966، وقاد بلاده نحو 15 عاما، ورُويت عنه فظائع ترقى إلى مرتبة الأساطير.

بلغت ذروة العلاقات "الودية والاخوية" بين فرنسا وإفريقيا الوسطى في عام 1975، وأعلن الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، فاليري جيسكار ديستان، نفسه "صديقا وفردا من عائلة بوكاسا".

وكانت باريس حينها تمد مستعمرتها السابقة بدعم مالي وعسكري، ويحتفظ ساستها بعلاقات وثيقة مع زعيم أفريقيا الوسطي، وفي مرات عديدة اصطحب بوكاسا جيسكار دستان في رحلات صيد بالسيارة، وكان يزود فرنسا باليورانيوم، المادة المشعة الحيوية لبرنامج فرنسا للطاقة النووية والأسلحة في حقبة الحرب الباردة.

إلا أن بوكاسا كان صعب المراس، وحاول اللعب على أكثر من حبل، حيث أعاد العلاقات مع الصين الشعبية وزار بكين في عام 1976، ما زاد من توتر العلاقات مع باريس.

تصادف أن التقى طريق بوكاسا مع طريق القذافي بعد أن تخاصم رئيس إفريقيا الوسطى حينها مع فرنسا في عام 1976.

قطعت باريس عن بلد بوكاسا الفقير المعونات، فتوجه نكاية بها إلى القذافي في طرابلس طلبا للمساعدة. وهناك أعلن إسلامه وجميع حاشيته، وأصبح يُدعى صلاح الدين أحمد بوكاسا.

لم يدم الأمر طويلا، عاد بوكاسا إلى عاصمته بانغي، محملا بمساعدة مالية ليبية تضاربت الروايات حول قيمتها، وما أن وطأ أرض بلاده حتى عاد إلى ما كان عليه، وزاد على ذلك بأن نصب نفسه إمبراطورا على بلاده.

كافأت فرنسا بوكاسا في حفل تتويجه امبراطورا على إفريقيا الوسطى بسخاء وحماسة، حيث أرسل وزير الدفاع الفرنسي كتيبة لتأمين الحفل وحمايته، كما أعار سبعة عشر طائرة إلى حكومة بوكاسا، وزاد على لك بتكليف أفراد من البحرية الفرنسية بدعم الأوركسترا التي أحيت حفل التتويج الأسطوري الذي استمر ليومين وكلّف ما يعادل 10 ملايين جنيه إسترليني، أي أكثر من الميزانية السنوية للبلاد حينها.

كما تولى الإشراف على حفل التتويج من الناحية الفنية الفنان التشكيلي الفرنسي الشهير جان بيير دوبونت، وقام بصنع تاج بوكاسا الصائغ كلود برتراند. وفي تلك المناسبة الاستثنائية وبرعاية فرنسا الكاملة، جلس بوكاسا على عرش يبلغ وزنه طنين على شكل نسر ضخم مصنوع من الذهب الخالص.

في تلك الفترة شنت الصحافة الغربية، وخاصة في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، حملة هوجاء على الإمبراطور بوكاسا الأول بطريقة ساخرة وحادة، وروجت لشائعات بأنه كان يتناول بين الحين والآخر لحما بشريا.

أما في ليبيا فقد راجت تلك الأيام رواية ساخرة تقول، إن السلطات الليبية بعد أن ارتد بوكاسا عن الإسلام وعاد إلى أحضان فرنسا بسرعة البرق، أرسلت إليه تطلب منه إعادة ما استلمه من أموال. بوكاسا أجاب: "سأرد إليكم أموالكم بشرط أن تعيدوا إلي ما قطعتوه في الختان"! (أي جرى ختانه عندما أعلن إسلامه).

تمرد بوكاسا على فرنسا، ووُصف بكل الموبقات، بما في ذلك أنه آكل لحوم البشر، بل ورُوج لهذه الرواية حتى اقتنع الجميع بها!

ويقول جان سيرغ بوكاسا، نجل الإمبراطور، إن والده "اغتالته وسائل الإعلام، ووصفته بأنه آكل لحوم البشر.. وسفاح أطفال".

عاش بوكاسا بعد أن أطيح به في عام 1979 في المنفى، لكنه عاد إلى بلده رغم التهديد بإعدامه، فسجن ثم أطلق سراحه، وتوفى عام 1996 عن عمر ناهز 75 عاما.

محاكمة بوكاسا التي انطلقت في 15 ديسمبر 1986، لم تجد أي دليل على ما ألصق به من تهم بأكل لحوم البشر، وبرأته من تهمة أكل لحوم البشر في 12 يونيو 1987، لكنها أدانته بقتل تلاميذ مداس خلال تظاهرة احتجاجية قمعتها الشرطة، وحكم عليه بالإعدام، وتم استبدل الحكم بالمؤبد. وخلال تلك المحكمة قال بوكاسا مدافعا عن نفسه: "أنا لست قديسا. أنا مجرد رجل مثل أي شخص آخر".

خففت العقوبة ضد بوكاسا مجددا إلى السجن 20 عاما في عام 1989. وبعد استقرار النظام في البلاد "وعودة الديمقراطية" في عام 1993، أعلن عن عفو عام، وأطلق سراح بوكاسا في 1 أغسطس 1993.

الإمبراطور المخلوع بوكاسا الأول رُد الاعتبار إليه وأعاد إليه مرسوم رئاسي جميع حقوقه في عام 2010، وكان ذلك في الذكرى الخمسين لاستقلال جمهورية إفريقيا الوسطى الغارقة منذ سنوات في الفوضى والخراب، ووصفه رئيس البلاد الأسبق فرانسوا بوزيزي بأنه "ابن الأمة وأحد كبار البناة"

وقال بوزيزي وهو يقليد أرملة بوكاسا وسام الشرف: " لقد شيد بلدا لكننا دمرنا ما بناه".

المصدر: RT

تاريخ الخبر: 2022-12-12 09:17:03
المصدر: RT Arabic - روسيا
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 84%
الأهمية: 98%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية