قبل انتخابات العام المقبل في بولندا، يستمر زعيم الحزب القومي المحافظ الحاكم ياروسلاف كازينسكي وحزبه في مهاجمة ألمانيا بينما تسعيان لتصوير منافسهما الرئيسي على أنه مُوالٍ لبرلين. وفي تصعيد لحدة الخطاب تجاه برلين، زعم كازينسكي أن ألمانيا تسعى للهيمنة على أوروبا، محذراً من أن البولنديين قد ينتهي بهم الأمر تحت "الكعب الألماني"، وفقاً لما تناقلته أسوشيتد برس.

تصريحات الزعيم البولندي المحافظ ضد ألمانيا تزامنت مع رفض حكومته عرضاً ألمانياً لنشر وتشغيل أنظمة باتريوت المضادة للصواريخ تملكها برلين فوق الأراضي البولندية، قبل أن تقبلها بولندا في نهاية المطاف. ومن شأن حملة وارسو المعادية لألمانيا أن تزعزع التعاون بين دولتين رئيسيتين في الاتحاد الأوروبي في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، وهي التداعيات التي ستفيد موسكو فقط.

الخلاف البولندي-الألماني ليس وليد الأزمة الحالية، ولا وليد الانتقادات الحادة التي انهالت على برلين بعد توقيعها مع موسكو خط لنقل الغاز الطبيعي الروسي إبان احتلال الأخيرة للقرم في عام 2014، بل تمتدّ جذوره إلى حقبة القرن الثامن عشر، عندما تقاسمت الإمبراطورية الألمانية وروسيا القيصرية أراضي الاتحاد البولندي-الليتواني التي كانت تقوده وارسو حينها.

باتريوت.. تُظهِر الخلاف إلى العلن

كتبت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن تبعات الحرب الأوكرانية المستمرة أكدت مؤخراً الطبيعة السامَّة للعلاقة بين ألمانيا وبولندا، وكلتاهما عضو مهمّ في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، من خلال عرض ألماني لتقديم بطاريتين من صواريخ باتريوت للدفاع الجوي النادرة والمكلّفة إلى بولندا، بعد أن انحرف صاروخ أوكراني عن مساره وقتل اثنين من البولنديين الشهر الماضي في بلدة برزيودو الصغيرة.

وقبلت بولندا في البداية عرض باتريوت ثم رفضته، قبل أن تصر بعدها على وضع البطاريات في أوكرانيا، وهي مكان غير أساسي لحلف شمال الأطلسي، حيث سيشغّل أفراد الناتو أنظمة الصواريخ. بعد قلق الحلفاء الكبير وانتقاد الجمهور، يبدو الآن أن الحكومة البولندية المحافظة قبلت العرض الألماني مجدداً.

وكان منتقدو حزب القانون والعدالة الحاكم في يقولون إن خطاباته المعادية لألمانيا أصبحت تهدد المصالح الوطنية لبولندا ويخاطر بخلق صدع بين الحلفاء الغربيين بينما تشن روسيا حرباً في أوكرانيا، إذ انتقدوا خصوصاً تذبذب الحزب بشأن قبول عرض ألماني لنشر أنظمة دفاع صاروخي باتريوت في بولندا.

من جهته قال ميشال بارانوفسكي، المدير الإقليمي لصندوق مارشال الألماني في وارسو: "هذه القصة كلها أشبه بأشعة إكس للعلاقات البولندية الألمانية البائسة. إنه أسوأ مما كنت أعتقد، وقد شاهدته منذ وقت طويل"، حسبما أوردت الصحيفة الأمريكية.

الغاز الروسي يفاقم الخلاف

بشكل أكثر حدة من انتقادات الدول الغربية، انتقد عديد من البولنديين موقف ألمانيا تجاه روسيا في السنوات التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، بخاصة صفقات الغاز التي خلقت الاعتماد على الطاقة الروسية وساعدت روسيا على بناء صندوق حربها، وفقاً لأسوشيتد برس.

وحسب نيويورك تايمز، انتقدت بولندا باستمرارٍ اعتمادَ ألمانيا على الطاقة الروسية وخطَّي أنابيب نورد ستريم 1 و2 اللذين صُمّما لنقل الغاز الروسي الرخيص مباشرة إلى ألمانيا متجاوزين بولندا وأوكرانيا. أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تكثيف وجهة النظر في بولندا بأن علاقات ألمانيا الوثيقة مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين لم تكن ساذجة فحسب، بل أنانية، وربما معلَّقة فقط لا متقطعة دائماً.

وفي سياق متصل قالت جانا بوجليرين، مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، إن كلا الجانبين ارتكب أخطاء في النزاع الحالي. وقالت: "العلاقة تتدهور منذ سنوات، لكنها بلغت ذروتها الآن وتسبب ضرراً حقيقياً. بين شرق وغرب أوروبا وأوروبا القديمة وأوروبا الجديدة فجوة ناشئة، وهذا مفيد فقط لفلاديمير بوتين".

جذور الخلاف

على الرغم من أن إجمالي التجارة الثنائية بين وارسو وبرلين بلغ العام الماضي نحو 152 مليار دولار، بجانب استمرار حركة المرور عبر الحدود وعدد الشركات البولندية العاملة في ألمانيا وعدد الشباب البولنديين الذين يدرسون في البلاد في الارتفاع، فإن كل هذه التطورات الإيجابية لم تساهم في إنقاذ العلاقات المسمومة بين البلدين.

جذور الخلاف بين البلدين، التي تغذّيها سياسات ياروسلاف كازينسكي المناهضة لألمانيا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، تعود إلى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وذلك عندما تحولت بولندا من قوة أوروبية عظمى إلى أراضٍ مقسمة بين روسيا القيصرية والإمبراطورية الألمانية. وعلى الرغم من أن بولندا عادت واستعادت جزءاً من أراضيها من ألمانيا بعد خسارة الأخيرة في الحرب العالمية الأولى بموجب معاهدة فرساي، كان ذلك سبباً في سيطرة الحزب النازي على السلطة عام 1933 وغزو هتلر لبولندا مشعلاً شرارة الحرب العالمية الثانية عام 1939.

يُذكر أن وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو وقّع مذكرة رسمية مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي يطالب فيها ألمانيا بدفع تعويضات تقدر بنحو 1.3 تريليون يورو نظير تسوية "قانونية ومادية دائمة وكاملة ونهائية" لمعالجة آثار احتلال ألمانيا النازية بولندا من عام 1939 إلى عام 1945.

TRT عربي