في عام 1962، عندما قرر موديبو كيتا رئيس مالي المستقلة حديثاً، إنشاء الفرنك المالي، كان ردّ الفعل المباشرة لجيرانه، المستقلين حديثاً ولكن أعضاء منطقة فرنك CFA، هو رفع الحواجز التجارية والعمل على عزله اقتصادياً.

بعد عامٍ اغتيل نظيره التوغولي سيلفانوس أوليمبيو -خطّط لمشروع نقدي مستقلّ لبلده المستقل حديثاً- على يد مجموعة من الأفراد العسكريين الذين درّبَتهم فرنسا. وكان من بينهم إتيان جناسينجبي إياديما، الرجل الذي أصبح فيما بعد رئيساً لتوغو من عام 1967 حتى وفاته في عام 2005.

وكان الهدف من فرنك CFA، الذي أنشأته فرنسا في عام 1945، التحكم في تكلفة الوصول إلى المواد الخام من المستعمرات، وحماية مصالح فرنسا من الكتلة النقدية الأخرى التي تسيطر عليها المملكة المتحدة، وهي "منطقة الإسترليني".

وعلى عكس نظيره البريطاني، الذي اختفى بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، يظلّ فرنك CFA حتى يومنا هذا العملة المعتمدة في 14 دولة إفريقية، بغضّ النظر عن حصولها على الاستقلال عن فرنسا منذ عقود.

توضح المزايا الهائلة المقدمة لفرنسا والشروط والأحكام الصارمة لفرنك CFA سبب الإشارة إلى العملة على أنها أداة "العبودية النقدية"، أو "الأداة غير المرئية للفرانكفريقي" (في إشارة إلى الاستعمار الفرنسي الجديد في إفريقيا) أو بعبارة واضحة "العملة الاستعمارية".

يُستخدم فرنك CFA في ثلاث مناطق متميزة، لكل منها نسختها الخاصة من العملة:

- فرنك غرب إفريقيا أو فرنك الجماعة المالية الإفريقية، الصادر من البنك المركزي لدول غرب إفريقيا، وتستخدمه بنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال وتوغو.

- فرنك وسط إفريقيا أو "التعاون المالي بفرنك وسط إفريقيا"، الصادر عن بنك دول وسط إفريقيا، ويُستخدم في الكاميرون وإفريقيا الوسطى وتشاد وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية الكونغو.

- الفرنك القمري، الذي يستخدمه اتحاد جزر القمر المستقل وحده (بقيمة 0.0020 يورو).

في جميع الحالات، يقدّم فرنك CFA ضمان فرنسا لقابلية التحويل، والتعادل الثابت (سابقاً مع الفرنك الفرنسي، واليوم مع اليورو)، وإمكانية التحويل المجانية ومركزية احتياطيات النقد الأجنبي. في المقابل، تُصدَر وتُطبَع النقود في فرنسا، والدول التي تستخدم فرنك CFA مُلزَمةٌ إيداعَ ما لا يقل عن 50% من احتياطياتها من العملات الأجنبية في الخزانة العامة الفرنسية.

نظراً إلى التفاوتات الهائلة بين الاقتصادين الإفريقي والفرنسي، فإن ربط عملة المنطقة بعملة قوية مثل الفرنك الفرنسي أمس واليورو اليوم هو أمر غير طبيعي وله آثار مباشرة على التنمية الاقتصادية لمنطقة الفرنك الإفريقي: انخفاض السيولة عند الحكومات التي تكون في حاجة ماسَّة إليها، والعقوبات في الصادرات قلّلت هامش تدخُّل البنوك المركزية مما يجعلها بدورها تركّز فقط على مكافحة التضخم لا التنمية الاقتصادية، فضلاً عن ندرة أموال الاستثمار للشركات، ومواجهة الأسر معدلات فائدة باهظة.

في المقابل تحظى فرنسا بالمزايا فقط؛ تحتفظ القوة الاستعمارية السابقة بقبضتها على اقتصادات هذه البلدان، عندما تتمتع الأخيرة بفائض تجاري، تُخزَّن احتياطياتها من العملات الأجنبية في البنوك الفرنسية التي يمكنها بعد ذلك استخدامها في الأسواق المالية الدولية. تفضّل الشركات الفرنسية الوصول إلى الأسواق المحلية، ويمكن الاستغلال، واستخراج الموارد، أي يمكنهم إعادة أرباحهم إلى الوطن بحرية بلا خوف من تقلبات العملات الأجنبية في أي مكان وفي أي وقت في جميع أنحاء منطقة فرنك CFA.

في ظل هذه الظروف، السؤال الطبيعي هو: كيف يمكن لأمة أن تكون ذات سيادة بلا سيادة نقدية؟ تكمن الإجابة في تَطوُّر التكافؤ "الثابت" منذ نشأة فرنك CFA، إذ انسحبت أربع دول فقط من 15 دولة عضواً في منطقة الفرنك من الاتفاقيات النقدية.

تطورت قيمة فرنك CFA عدة مرات على مر السنين، ولكن فقط عندما قرّرت باريس ذلك. على سبيل المثال، في عام 1945 كان الفرنك الفرنسي الواحد يساوي 0.588 فرنك إفريقي، ولكن على الرغم من أنه "ثابت" في البداية، فإن هذا "التكافؤ" سيتغير إلى أن فرنكاً فرنسياً واحداً يساوي 0.5 فرنك إفريقي عام 1948، وحتى 0.02 فرنك إفريقي عام 1960 عندما قدّمَت فرنسا فرنكها الجديد.

لكن الأسوأ كان ما سيأتي لاحقاً. في عام 1994 قرّرَت باريس من جانب واحد مراجعة قيمة الفرنك الفرنسي إلى الفرنك الوسط إفريقي. كان كابوساً لجميع الأفارقة الذين رأوا رؤساءهم ورؤساء البنوك المركزية يوقّعون إعلان داكار ويوافقون على قرار باريس الأحادي تخفيض قيمة الفرنك الإفريقي إلى 50 في المئة من قيمته بسعر فرنك فرنسي واحد يساوي الآن 0.01 فرنك إفريقي. كانت العواقب وخيمة على المنطقة؛ شهدت مئات ملايين الأسر انهيار قوتها الشرائية مع انفجار تكاليف الاستيراد والارتفاع الهائل في الأسعار.

حتى يومنا هذا، فإن هاجس البنوك المركزية هو محاربة التضخم على حساب الاستثمار والتنمية الاقتصادية. إذا تمكنت فرنسا من خفض قيمة الفرنك الإفريقي من جانب واحد وفرضت قرارها على القادة الأفارقة، فإنهم بدورهم يمكنهم فقط المضي قدماً في "التخفيض الداخلي لقيمة العملة" عن طريق خفض الإنفاق العامّ والسماح بارتفاع الأسعار.

قد يجادل أنصار CFA France بأن العملة تجلب الاستقرار إلى المنطقة. لكن حتى الآن لم تزدهر المنطقة الإفريقية، ولم تُترجَم العملة الموحدة بين 14 دولة إلى تبادلات كبيرة بينهما.

كما أشار الخبير الاقتصادي التوغولي كاكو نوبوكبو، فإن التبادلات داخل منطقة الفرنك الوسط إفريقي تبلغ 10 بالمئة في وسط إفريقيا و15 بالمئة داخل غرب إفريقيا فقط، في حين تبلغ 60 بالمئة من الشركات داخل منطقة اليورو. علاوة على ذلك فإن الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين لفرنسا في إفريقيا هم المغرب (بنسبة 18.9 في المئة من التجارة الفرنسية-الإفريقية) والجزائر (18.4 في المئة) وتونس (15.2 في المئة) ونيجيريا (8.5 في المئة) وجنوب إفريقيا (5.8 في المئة)، وهؤلاء جميعاً لا يستخدم أي منهم الفرنك الوسط إفريقي.

إن نجاح باريس في الحفاظ على قبضتها النقدية على المستعمرات السابقة لم يكن ممكناً بلا تعاون نشط من النخب الأصلية المدرَّبة في فرنسا. على سبيل المثال، عندما رفض سيكو توري الانضمام إلى الجالية الإفريقية لشارل ديغول عام 1958 واختار بدلاً من ذلك قيادة شعبه نحو الاستقلال التامّ عن فرنسا، لم تكن العقبات التي واجهها هي الفرنسية فحسب، بل الإفريقية أيضاً.

ضاعف رفيقه السابق فيليكس هوفويت بوانيي التهديدات التي وجهها وزير أقاليم ما وراء البحار الفرنسي برنار كورنوت جنتيل، الذي أعلن: "إذا صوّتَت غينيا ضد الانضمام إلى المجتمعات الإفريقية الفرنسية، فلن نمنحها بالتأكيد مكافأة". أعلن بويني، الوزير في عهد ديغول قبل أن يصبح أول رئيس لساحل العاج، صراحةً أن "غينيا لن تواجهها فرنسا فحسب، بل ستواجهها أيضاً الجالية الفرنسية الإفريقية بأكملها".

التهديد الصريح تَجسَّد مع العمليات العلنية لزعزعة استقرار البلاد، ومحاولات التجويع من خلال اعتراض شحنات الأرز وحتى توزيع العملات المزيفة لتركيع اقتصاد البلاد، كما أفاد بيير ميسمير، الرئيس السابق لوكالة المخابرات الخارجية الفرنسية SEDECE (جهاز التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس) في مذكراته.

على الرغم من عقود من التنمية الاقتصادية الضعيفة وندرة الفرص لشعوبهم، فإن الجيل الحالي من القادة الأفارقة، مثلهم مثل أسلافهم، لا يزالون متأخرين في هذا المنحى. في الواقع، جاء قرار "إصلاح" فرنك CFA من الرئيس الفرنسي. عام 2019 زار إيمانويل ماكرون أبيدجان وأعلن بحضور الرئيس الإيفواري الحسن واتارا أنه ومن خلال "سماعي لشبابك فقد أردت الشروع في هذا الإصلاح". إذا أراد ماكرون إخبار زعيم إفريقي بأنه غير ذي صلة، فلن يستطيع فعل ذلك بطريقة أفضل من ذلك.

إذا كانت المبادرة تقدم حريات جديدة على الورق، فإنها تمنح استقلالية نقدية جزئية فقط. إن العملة المشتركة المقترحة لدول غرب إفريقيا "إيكو" ستظل مرتبطة باليورو. وعلى الرغم من العبء الذي ينطوي عليه المشروع فإنه لم يتحقق على الأرض بعد.

منذ إنشاء فرنك CFA، نُفّذ كل ما يلزم للحفاظ عليه. إن رفض فرنك CFA وفكرة التخلي عن السيادة النقدية الكاملة لفرنسا قديم قدم العملة نفسها، سواء من توماس سانكارا من بوركينا فاسو أو موديبو كيتا من مالي، وكلاهما اغتيل وأطيح به وحلّ محلّهما رجال أقوياء متحالفون مع فرنسا.

في مؤشرات على أن الإصلاح، ناهيك بالتخلي عنه، يُعَدّ من المحرمات، أقالت المنظمة الدولية للفرنكوفونية مديرها الاقتصادي التوغولي والوزير السابق كاكو نوبوكبو، بسبب مواقفه المناهضة لفرنك CFA.

لم يكُن تزايد السخط من فرنسا في إفريقيا ورفض جيل الشباب لوجودها من قبيل الصدفة. لا يمكن أن يكون لتحديات إفريقيا حل فرنسي أو أمريكي أو صيني. وحدها المبادرات الإفريقية التي يتصورها وينفّذها الأفارقة ستمهّد الطريق لصحوة القارَّة.



جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي