درجت الولايات المتحدة الأمريكية على الهجوم على الدول النفطية، وازداد الهجوم في الفترة الأخيرة على أوبك+ وعلى سياساتها النفطية، وهي تدرك أن الثقة المستمرّة للعالَم في الديون الحكوميّة الأمريكيّة تعود إلى الدول النفطية التي تستند إلى استخدام الدولار في تجارة النفط وإعادة تدوير عائداته في الأسواق الماليّة الأمريكيّة.

ويرى حافظ إدوخراز في حديثه عن دَور تجارة النفط في هَيْمَنة الدولار الأمريكيّ بدورية أفق أن التجارةَ العالَميّة للنفط تكتسب أهميّة استراتيجيّة بالغة بالنسبة إلى دعْم موقع العملة الأمريكيّة، حيث لا يزال الجزءُ الأكبر من الصفقات الدوليّة المتعلّقة بالنفط يُسوّى بالدولار الأمريكي. ويرى الاقتصادي الأمريكي المعروف رونالد ماكينون تجارة النفط العالَميّة بحصن نوكس الجديد لزمن ما بعد بريتون وودز، والذي يقوم بضمان قيمة الدولار الأمريكي. وللإشارة فحِصنُ نوكس (Fort Knox) هو القاعدة العسكريّة الواقعة في ولاية كنتاكي الأمريكيّة، والتي تحوي داخل أسوارها المحصَّنة الخزينةَ الرئيسة للاحتياطي الأمريكي من الذهب.

الذهب الأسود

لقد حَلَّ إذن الذهبُ الأسود مَحلّ الذهب الأصفر كأهمّ أصلٍ يوفِّر غطاءً ومُقابلًا عينيًّا للدولارات المُتداوَلة التي يُصدرها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، منذ دفْنِ النّظام النقدي النّاتج عن اتّفاقيّة بريتون وودز، وذلك عقب قرار الإدارة الأمريكيّة في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون بوضْع حدٍّ لقابليّة تحويل الدولار إلى الذهب في الخامس عشر من أغسطس 1971. وبعبارة أخرى، يقول د. روبرت لوني، أستاذ الاقتصاد الدولي في المدرسة البحريّة في مونتيري، في مقال عائد إلى العام 2004، نشرته مجلّة «سياسة الشرق الأوسط» (Petroeuros: A Threat to U.S. Interests in the Gulf)، إنّ النقود الأمريكيّة مدعومة في الواقع باحتياطيّات النفط لجميع الدول التي تبيع نفطها مقابل الدولار الأمريكي.

استخدام الدولار

واستخدامُ الدولار كعملة شبه حصريّة في السوق العالَميّة للنفط يَمنح امتيازًا عظيمًا للولايات المتّحدة، يتمثّل في الحقّ في إصدار عملتها الوطنيّة للدفع مقابل أيّ شيء تريده، ولفائدة أيّ شخص، وفي كلّ مكان من العالَم؛ بحيث تتعزَّز المنافع المتحصّلة من وراء هذا الامتياز، بالنَّظر إلى أنّ معظم الدول تبقى بحاجة إلى النفط لمواصَلة نموّها الاقتصادي وتأمين حاجيّاتها من الطّاقة. وينطبق هذا أكثر على الدول الصناعيّة المصدِّرة والمدمنة على هذا المَورد. وتحتاج كلُّ الدول الراغبة في شراء النفط من الأسواق العالَميّة إلى تأمين الدولارات الكافية لهذا الغرض، ما يُحتِّم عليها أن تبيع سلعها للولايات المتّحدة أو لبلدانٍ تملك احتياطيّات كافية من الدولار الأمريكي. يَدفع هذا الوضعُ إلى زيادةِ الطلب العالَمي على العملة الأمريكيّة، ويَسمح للإدارة الأمريكيّة (من خلال الاحتياطي الفيدرالي الذي يقوم بشراء السندات الحكوميّة الجديدة) بطبْع المزيد من الدولارات التي توزَّع على دولِ العالَم المتعطِّشة لهذه العملة النقديّة الضروريّة لتأمين حاجيّاتها من النفط وباقي السلع الأساسيّة.

والبلدان التي تفتقر إلى الموادّ الأوليّة الأساسيّة مثل النفط، تضطرّ إلى استيراد حاجيّاتها من هذه الموارد الطبيعيّة، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى الدول التي تفوق حاجيّاتها حجْمَ إنتاجها المحلّي (الصين على سبيل المثال). فهي بالتالي تَجِدُ نفسَها مرغمةً على مُراكَمة الدولارات، لأنّها لا تستطيع تسديد ثمنَ وارداتها إلّا بالعملة الأمريكيّة ولا تقبل معظمُ الأسواق عملاتِها الوطنيّة. يدخل العالَمُ جرّاء هذا في سباقٍ نحو التصدير إلى الأسواق التي يُمكن أن تدفع بالدولار مقابل السلع المصدَّرة، ولا مُنافِس للولايات المتّحدة بهذا الصدد؛ فالدولار هو عملتها الوطنيّة ويكفي أن يطبع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المزيد منه. تترتّب عن هذا الوضع زيادةٌ مستمرّة في حجْم السيولة المُتداوَلة دوليًّا بالدولار، ما يقدِّم تفسيرًا لبقاء العملة الأمريكيّة كأهمّ عملة نقديّة مُتداوَلة في أسواق الصرف وكأهمّ عملة في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم.

ولأنّ المسؤولين الأمريكيّين واعون تمامًا بكلّ الرّهانات التي سبقت الإشارة إليها، فإنّ إعادة إنتاج هذا النظام القائم على «البترودولارات»، والإبقاء على الوضع القائم في مجال العلاقات النقديّة الدوليّة يكتسي طابعًا استراتيجيًّا بالنسبة إلى الولايات المتّحدة، وذلك من أجل الاستمرار في جني ثمار وضْع الهَيْمَنة النقديّة الذي يتمتّع به الدولار ضمانًا لقوّة الولايات المتّحدة وسيطرتها على العالَم. ولذلك فهُم لا يتردّدون في استعمال كلّ مَوارد قوّتهم النّاعمة والصلبة على حدّ سواء (بما في ذلك القوّة العسكريّة إذا لزم الأمر) في سبيل تأمين الشروط والظروف المعزِّزة لهَيْمَنة العملة الوطنيّة الأمريكيّة ودعْمِ مَوقعها في سوق النفط الدوليّة بشكلٍ خاصّ وأسواق السلع الأساسيّة (الموادّ الأوليّة) بشكلٍ عامّ.

غزو أمريكا للعراق لدعم الدولار

إحدى الفرضيّات التي تمّ تقديمها كتفسيرٍ للغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، هي لجوء الإدارة الأمريكيّة إلى القوّة العسكريّة من أجل دعْمِ موقع الدولار في منظومة النقد الدولي، وخصوصًا في ظلّ الوضع العالَمي الجديد الذي يشهد تحدّيًا واضحًا للأحاديّة القطبيّة والهيْمَنة الأمريكيّة.