خلال العقود الأخيرة، وبسبب عوامل رئيسية أبرزها: ارتفاع الدخل وتأثير الثقافة الغربية وتطور تكنولوجيا الزراعة التي تركز على محاصيل معينة، بات سكان العالم يأكلون الأطعمة ذاتها بشكل متزايد، مما يعني زيادة اعتمادهم على الأغذية المستوردة أكثر من أي وقت مضى، وفي الوقت نفسه زيادة تأثرهم بالحروب والتغييرات الاقتصادية والمناخية.

الخوف من مثل هذه الاضطرابات، وآخرها ضرب سلاسل توريد القمح بسبب الحرب الاوكرانية، أعاد الاهتمام بالمواد الغذائية التقليدية المهملة ودفع بعض البلدان إلى البدء في محاولة تغيير الأمور إلى الوراء. فيما قالت فاطمة هاشم، كبيرة مسؤولي التغذية في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة: "الاعتماد على محاصيل قليلة يجعل السكان عرضة للصدمات"، وفقاً لما نقلته بلومبيرغ.

وبالإضافة إلى أن النظام الغذائي العالمي الجديد أصبح أكثر تجانساً، فهو أيضاً يحتوي على نسبة أعلى من الدهون والكربوهيدرات وأقل من حيث العناصر الغذائية. وقال بيتر تيمر، الأستاذ الفخري بجامعة هارفارد الذي كان يقدم المشورة للحكومات الآسيوية بشأن أزمات الغذاء: "إنه لأمر مذهل مدى سرعة تغير الأنماط الغذائية". وتابع: "في أوروبا، استغرق تطور هذه الأنماط الغذائية مائة عام، ولكن حدث ذلك في 20 أو 30 عاماً في آسيا".

3 محاصيل توفر نصف السعرات الحرارية

على مدى التاريخ البشري، من بين حوالي 30000 نوع من النباتات الصالحة للأكل، جرت زراعة 6000-7000 نوع من أجل الغذاء. ومع ذلك، فنحن اليوم نزرع فقط ما يقرب من 170 محصولاً على نطاق تجاري كبير. والأكثر إثارة للدهشة، أننا نعتمد بشكل كبير على حوالي 30 منهم فقط لتزويدنا بالسعرات الحرارية والعناصر الغذائية التي نحتاجها كل يوم.

لكن الحدث الأكثر غرابة، هو أن قرابة 50% من السعرات الحرارية التي تستهلكها البشرية بشكل يومي تأتي من ثلاثة محاصيل أساسية: الأرز والقمح والذرة.

وإذا أخذنا القمح كمثال، نجد هذا المحصول أصبح الآن جزءاً لا يتجزأ من معظم النظم الغذائية حول العالم. وبالمقابل، نرى أنه لا يزرعه إلا حفنة من البلدان في الغالب. وعندما تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في تعطيل تجارة القمح، ارتفعت الأسعار العالمية بنسبة 40% تقريباً، فيما تسبب التدافع على شرائه وتخزينه في فرض أكثر من 20 دولة قيوداً على الصادرات الزراعية، مما أدى إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية.

وحسب بلومبرغ، ليست الحرب وحدها هي التي يمكن أن تسبب تقلبات شديدة في الأسعار وتوافر الواردات: فالطقس المتطرف، الذي يتزايد تواتراً مع تغير المناخ، وتقلبات العملة يمكن أن تسبب الفوضى أيضاً. في حين أن هذه قضايا للجميع، إلا أن البلدان الأكثر فقراً هي الأكثر عرضة للخطر.

الأمن الغذائي في خطر

ارتفع عدد الأشخاص المتضررين من الجوع على مستوى العالم إلى ما يصل إلى 828 مليوناً في عام 2021، بزيادة قدرها حوالي 46 مليوناً منذ عام 2020 و150 مليوناً منذ تفشي وباء كوفيد-19 عام 2019، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة الذي يقدم أدلة جديدة على أن العالم يبتعد أكثر عن هدفه المتمثل في القضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية بجميع أشكاله بحلول عام 2030.

وفي الوقت الذي نُشر فيه التقرير منتصف العام الجاري، كانت الحرب المستمرة في أوكرانيا، والتي يشارك فيها اثنان من أكبر المنتجين العالميّين للحبوب الأساسية والبذور الزيتية والأسمدة، تسببت بالفعل في تعطيل سلاسل التوريد الدولية ورفع أسعار الحبوب والأسمدة والطاقة، وكذلك أسعار الحبوب الجاهزة.

ويأتي ذلك في الوقت الذي تتأثر فيه سلاسل التوريد سلباً بالفعل بالظواهر المناخية المتطرفة المتكررة بشكل متزايد، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل، وقد يكون لها تداعيات خطيرة على الأمن الغذائي والتغذية العالميين.

ما الآثار السلبية لتناول الأطعمة ذاتها؟

تشير النظم الغذائية المتغيرة في بعض الحالات إلى ارتفاع الدخل، إذ قال كولين خوري الباحث في المركز الدولي للزراعة الاستوائية: "نحن بحاجة إلى الاعتراف بالأمور الإيجابية أيضاً. أدى توسع التجارة الزراعية العالمية إلى إدخال أغذية جديدة لمليارات الفقراء الذين اعتادوا الاعتماد على نظام غذائي محدود للغاية".

ومع ارتفاع معدلات الدخل، زاد الاعتماد على الاستيراد وأصبحت معظم البلدان أكثر اعتماداً على الواردات الزراعية والغذائية. وعلى الرغم من تحذيرات الخبراء، لم يكن هذا يمثل مشكلة كبيرة لعقود من الزمن، إذ إن زيادة العرض العالمي في المحاصيل الرئيسية تعني أن الغذاء الأجنبي المزروع الرخيص ساعد في التخفيف من الجوع حول العالم. لكن استمرار الحرب الأوكرانية طوال الشهور الـ 10 الماضية، كشفت عن سلبيات الاستيراد الضارة وقلب الافتراضات السابقة رأساً على عقب.

وعلى الرغم من أن إمدادات الحبوب لم تتوقف تماماً بفضل "اتفاقية الحبوب" التي رعتها تركيا، فإن ما يقرب من ربع صادرات القمح العالمية يأتي من روسيا وأوكرانيا، ما يعني أن البلدان المعتمدة على الاستيراد، لاسيما الفقيرة منها، تعرضت لصدمة هائلة مع انتشار تأثير الحرب على السلع الأخرى والطاقة، إذ تقدر الأمم المتحدة أن التكاليف المرتفعة ستدفع 71 مليون شخص على مستوى العالم إلى ما دون خط الفقر، وفقاً لما نقلته بلومبيرغ.

الصداع الآخر تمثل في الدولار الأمريكي القوي، فعادة يجري تسعير السلع الزراعية العالمية بالدولار. فيما يشكل الطقس المتطرف أيضاً خطراً على الإمدادات، إذ تهدد الفيضانات في أستراليا والحرارة الحارقة في الهند المحاصيل. من المرجح أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم الوضع، فقد تنخفض غلة المحاصيل العالمية بنحو 30% بسبب تغير المناخ، بينما من المتوقع أن يقفز الطلب على الغذاء بنسبة 50% في العقود القادمة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.

TRT عربي