مصنع الكراسي
مصنع الكراسي
حياة كريمة, هذا ما يتمناه كل إنسان, فمن منا لا ينشد أن يحيا حياة كريمة, من منا لا يسعي بكل قوته ليوفر له ولأسرته تلك الحياة الكريمة, الجميع في سباق من أجل ذلك. ويختلف مفهوم الحياة الكريمة من شخص لآخر ومن مكان لآخر, فقد تكون الحياة الكريمة بالنسبة للبعض هي أن تتوافر له سبل الإعاشة العادية من مأكل وملبس ومسكن أيحياة الكفاف, وقد تكون الحياة الكريمة بالنسبة لآخرين هيكيف يتمتع بكل حقوقه المجتمعية ويمارس حقوقه الدستورية ويعيش فيمستوي مادي مناسب متمتعا بالحماية الاجتماعية, وعند البعض أن الحياة الكريمة هي أن يحيا في رفاهية وتقدم.
وأيا كان مفهوم الحياة الكريمة إلا أن المتفق عليه أن هذا مطلب للجميع, والدولة المصرية تسعي جاهدة أن توفر حياة كريمة لمواطنيها, بالرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية الرهيبة التي تواجهها, لذا تولي اهتماما خاصا بالعشوائيات وبمحدودي الدخل والقري الأكثر فقرا, ولكن الأمر أكبر من ذلك, لأنه يحتاج إلي تضافر جميع الجهود منأجل هذا الوطن, لذا لابد من أن يكون هناك دور فعال للمجتمع المدني ولرجال الأعمال ولكل من يستطيع أن يخدم الوطن.
والجميع لديهم نوايا حسنة في خدمة بلدهم, ولكن كيف نساهم في الخدمة الاجتماعية بطريقة مؤثرة تتماشي مع مطلبنا بأن نعيش حياة كريمة, لذا يجب علينا أن يكون لدينا فكر تنموي ورؤية في تقديم خدماتنا ومساعداتنا, فجيد أن تقدم إحسانا للفقراء والمحتاجين, ولكن الأفضل أن تساعدهم علي تنمية حياتهم وإشراكهم في حل مشاكلهم بأنفسهم, وذلك بتمكينهم لتنمية أنفسهم, فالجميع يملك إمكانيات وقدرات كامنة تحتاج إلي توجيه وتدريب ومساعدة لتطوير حياتهم.
نحتاج أن ننظر حولنا ونبحث عن تلك الفئات التي تحتاج للخدمة وهي كثيرة, ونفكركيف نساعدهم إلي تنمية حياتهم. هناك خدمات تقدم للأرامل ولكبار السن, وخدمات تقدم للأسر المستورة, وخدمات تقدم للمرضي, وخدمات تقدم للتعليم ومجالات كثيرة, وكل هذا يساهم في خدمة مجتمعنا, والمهم كيف نقدم مساعداتنا وخدماتنا بطريقة روحية تحافظ عليكرامة وإنسانية من نساعدهم.
وفي تاريخنا الاجتماعي توجد صور مشرقة لمفهوم الخدمة الاجتماعية القائمة علي إنسانية عالية وبطريقة روحية, وهنا أقدم مثالا لصورة مشرقة كان لها دور كبير في خدمة الإنسانية, وهذه الصورة لسيدة مصرية من قرية في صعيد مصر ولرجل سابق لعصره, كانالهما فكر تنموي عظيم.
هذه السيدة هي رومة ميخائيل أثناسيوس من قرية أشروبة ببني مزار التابعة لمحافظة المنيا, وقد كانت هذه السيدة تدير 1500 فدان ميراثها هي وأختيها. خدمت هذه السيدة في مجالات عدة وقامت بأعمال خيرية كثيرة في مجال خدمة الفقراء والمحتاجين والأسر المستورة, وقيل عنها ما من مشروع خيري إلا ولها يد فيه بيضاء (سنفرد لها مقالا خاصا فيما بعد), قدمت تبرعات خيرية أكثر من مرة للإكليريكية والمدرسة الصناعية ببولاق, وللجمعيات الخيرية, اهتمت بفئة معدمة غير معروفة هي فئة العرفاء (مرتلي الكنيسة), وقدمت لهم خدمة بفكر تنموي حديث, حيث زارت مدرسة العرفاء في يناير سنة 1926م وما أن شاهدت حالتهم البائسة حتي تأثرت كل التأثر مما رأته عليهم من بؤس شديد وحياة رثة بالية.
فاتفقتمع فكرة ناظر الاكليريكية علي عمل (مصنعللكراسي) الخيرزانوالسبتات الصفصاف, والفرش وما أشبه ذلك, مما يتناسب وحالتهم, ومما يكون معينا لهم علي كسب معاشهم في حياتهم المستقبلة, في أوقات فراغهم من واجباتهم الدينية ليحفظ لهم حياة كريمة ومراعاة لمشاعرهم, دون أن ينتظروا إحسانا من الآخرين وقد لا يأتي. وتحقيقا لهذه الغاية اتفقت معالأستاذ حبيبجرجس ناظر المدرسة الإكليريكية, علي تخصيص عشرين عريفا من المدرسة للأشغال الصناعية, يدربون عليها في أوقات فراغهم, فخاطبت المجلس الملي لتبني هذا المشروع التنموي الذي يحقق حياة كريمة لهذه الفئةفوافق علي ذلك.
وقررت بأن تدفع للبطريركية من مجموع ريع الأطيان للوقف التي تديره مبلغ 250 جنيها في شهر أكتوبر من كل سنة, يدفع منها مرتبات المعلمين وثمن الخامات والأدوات اللازمةلهذه الصناعات. ودفعت مقدما مبلغ مائة جنيه للقيام بالأعمال التأسيسية وإعداد الأمكنة اللازمة لإدارة هذا المشروع, وهكذا ساهمت تلك السيدة العظيمة في خدمة هذه الفئة بطريقة تنموية تحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم. ومن هنا نري هذا الفكر المستنير في خدمة المجتمع, فبدلا من أن يقدموا إحسانا ماليا لهؤلاء ويجعلهم فئة متواكلة, دربوهم وعلموهم تلك الصنعة البسيطة المناسبة لهم, وبذلك ساعدوهم بطريقة غير مباشرة أنهم هم الذين ينمون أنفسهم ولا ينتظرو إحسانا من أحد, فتولد لهم شعور بإنسانيتهم وكرامتهم. وتحسنت حالتهم وعاشوا حياة كريمة.
ومن هنا فهذه دعوة للجميع, لنقدم خدماتنا للمحتاجين للخدمة لكن بطريقة تنموية روحية تحفظ لهم كرامتهم وتساعدهم علي استثمار قدراتهم وإمكانياتهم لتطوير مجتمعهم لخلق حياة كريمة تليق بإنسانيتهم.