قيادة العقل دون رخصة
قيادة العقل دون رخصة
حديثي ليس تكرارا لمقولة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حول منهج الشك والتأكيد علي أن الفكر ومناطه العقل هو أحد ثوابت الهوية التي تميز الإنسان, ولكن سأستعير من فلسفته قوة الشك التي تقود للبحث, ومن ثم تجلي الحقيقة. ولتبسيط الفكرة دعني أطرح بعض الأسئلة الاستنكارية التي تحمل في طياتها أجزاء الفكرة, وخذ أولها: هل تعبئة المزيد من الوقود في سيارتك يزيد من سرعتها؟ هنا تأتي الإجابة النافية لتوضح أن ثمة فرقا بين حيازة الأشياء وإتيان المنافع فحيازة العقل ليس حصيلة اجتهاد البشر, وإنما هي حصة تلقاها ضمن مكاسب الخليفة.
العقل وظيفة يقوم بها عضو هو المخ, لذا من الأهمية بمكان توضيح الفرق بين امتلاك العضو, وهو المخ, والتمتع بوظيفته وهي العقل لأن حيازة الشيء ليست بالضرورة مرادفا أو دلالة علي إمكانية استخدامه, فالأقلام تباع ولكنها تكتب فقط ولا تمنح حاملها القدرة علي التفكير, وهنا نعود لوضع النقاط علي الحروف وحسم العنوان الذي اعتلي المقال.
الرخصة ـ أي رخصة لأي أمر ـ تعني صلاحية استخدام حاملها لمهامها, ومهام العقل في الحياة هي من أصعب المهام, لأن العقل تكليف وليس أدل علي ذلك من أن العقل هو منطق التكليف الذي تأسس عليه ميثاق العلاقة بين العباد ورب العباد, وأن غيابه يسقط التكليف ويعفي من اللوم والحساب حتي مع أشد الموبقات والمهالك. المتأمل لمشاهد الحياة بترو يكتشف أن البعض قد برع في إتيان أفعال ظاهرها عظيم, ولكن باطنها خاو, ولنأخذ مثالا من قصة الشاب المعروفة إعلاميا بعامل النظافة وهو الذي تعاطف معه الملايين وبنيت حوله الروايات, وبلغة مواقع التواصل أصبح صاحب تريند ونال شهرة لم ينلها كاتب ولا أديب إلا بعد سنوات من العمل والنجاح.
بنظرة تحليلية لقصة عامل النظافة, نكتشف أن الحدث الأصلي وهو التباكي علي فقره عندما طرده صاحب المطعم جاء قدريا لا حيلة للعقل فيه, ولكن جاء دور العقل لاحقا وهو توريط الشاب بالاستمرار في النجومية ووضع نفسه تحت بؤرة الأضواء بدلا من التواري في الظلام خاصة وأنه صاحب نقيصة, فهو مدين للقانون بتنفيذ حكم غيابي بالسجن, إلا أن إغواء الأضواء أوجد عتامة علي عقله وزغلل عينيه عن استكمال الهروب من السجن كما رتب له. إذن يمكن القول بأن بعض العقول عندما تشارك في إدارة أمر قدري قد تتلفه وتورط صاحب العقل في ما لا يحمد عقباه.
إدارة العقل تستوجب رخصة القيادة, والرخصة هنا تمنح بعد توافر ضامانات الحكمة, تماما مثل رخصة قيادة المركبات التي تستلزم ضمانات منها سلامة البصر وأهلية السن وسلامة البنية إلي آخره, والحكمة هنا هي ربط معارف الحياة بالقرارات المعلقة وهي ما نعرفه بمنهج إدارة المخاطر, وهو المنهج المفقود في حياة الكثير من المصريين, وهو ليس ضربا من الافتراء أو جلد الذات, وإنما يكفي القول بأن ما من بيت يوجد في مطبخه طفاية حريق, اللهم إلا إذا كان سكني إدارة تم تجهيزه بمعرفة الشركة أو المصنع, أما في البيوت الأهلية فدرء المخاطر ليس مقدما علي جلب المنافع كما تنصح به مناهج السلامة وإدارة المخاطر.
ومن ناحية أخري, تعني إدارة العقل توخي الضمانات بعدم إساءة استخدام الشخص لقدراته, وتذكر أن النشال احترف الحرام باستغلال خفة يده, وهاكر الحسابات الإلكترونية يمتلك من المهارة والخبرة ما يربحه بالحلال, ولكنه في سباق مع الحرام استثمر المهارة في السطو الحرام. إذن نخلص إلي أن التحكم بقدرات العقل يستوجب وجود رخصة للقيادة وهي الحكمة, والحكمة هنا تعني حسن التفكير في النتائج والتحسب للمخاطر.
وبعد فهم معني رخصة القيادة, تعالوا لنفهم أين خطورة استخدام العقل بلا رخصة, وأقصد عدم أهلية البعض لتحمل تبعات الصلاحيات الممنوحة له, فمعظم حالات الطلاق هي رهن بعدم وجود حكمة استخدام الصلاحيات, وغياب حسابات العقل في فهم الخسائر المحتملة من ضياع الأطفال ومعاناة المطلقات وتكدير الأسر. تنبهت القوانين والدساتير في بلاد الغرب لهذه الفرضية ووضعت قوانين تضمن نصف ممتلكات الطرف المنسلخ عن العلاقة للطرف الآخر سواء أكانت علاقة زوجية أو علاقة خارج إطار الزواج حتي لا يستمر تأذي أي من الطرفين بجرة قلم الطرف الآخر, وكأنما الرسالة هي اكبح جماح العنترية قبل أن تدهس أحدهم جراء قيادتك غير الرشيدة.
تمنيت مرارا, وتحدثت في منابر مكتوبة ولقاءات حية عن ضرورة وضع شروط الأهلية في التشريعات التي تنطوي علي التمكين, تمكين أي إنسان من مقدرات الغير, وكان الطلاق أهمها, وقبل الطلاق كانت أهلية الشاب أو الفتاة للزواج, فالحب وحده لا يكفي لتأسيس كيان أسري وانتظار ضيوف جدد في هذه الأسرة وهم أطفال لا حول لهم ولا قوة. لا بد من تأهيل الطرفين المتقدمين للزواج لعدة ضوابط اختبار رخصة قيادة الأسرة, وضمان حماية البناء الأسري من عنترية العقول غير الراشدة, فالصلاحيات بلا رخصة تمكين مرشد هي في الحقيقة متلفة مكتملة العوار.
توجد حساسية خاصة لدي النفوس في بعض الأشخاص تجاه التوجيه والنصح لتدارك الأخطاء ودرء البلاء قبل وقوعه, ولكن عنترية العناد في كثير من الأحيان تعطل سريان الحكمة. المتأمل للشرع يكتشف الحكمة الربانية في دعوة حكم من أهله وحكم من أهلها للصلح, والمعني هنا الاستعانة بسائق يحمل رخصة درجة أولي في إدارة العقل.