مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، استفاقت أوروبا على حقيقة صادمة مفادها النقائص الكثيرة في استراتيجية دفاعها المشترك، وارتهان الاتحاد في دفاعه لحلف الشمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة. وهو ما اعترف به مفوض الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل مؤخراً، قائلاً إن "الحرب الأوكرانية كانت بمثابة جرس إنذار لنا جميعاً بشأن قدراتنا العسكرية".

هذا الوضع الذي تسعى أوروبا لتداركه، عبر "بوصلتها الاستراتيجية الجديدة" التي كشفت عنها المفوضية الأوروبية شهر مارس/آذار الماضي، والتي تشمل تشكيل قوة عسكرية أوروبية مشتركة من 5000 جندي سريعة الانتشار وقادرة على التعامل مع عمليات متعددة في بيئات مختلفة.

ويعود الحديث عن هذه القوة العسكرية مع تعهد إسبانيا بتسريع تشكيلها، ذلك في أثناء فترة رئاسة مدريد الدورية للاتحاد الأوروبي. فيما لا يزال يرى مراقبون وجود صعوبات كبيرة تترصد هذا المشروع، منها ما يجعله غير قابل للتحقق.

مناورات وتسليح مشترك

في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، خلال ختام الدورة التاسعة من مؤتمر أوروبا-المتوسط، أعلن رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانتشيز أن بلاده سوف تستضيف أولى مناورات عسكرية مشتركة لبلدان الاتحاد الأوروبي، ذلك خلال رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من 2023.

وأضاف سانشيز أن التنسيق مع البلدان الأعضاء بلغ مرحلة متقدمة مع هيئة الأركان الأوروبية التي ستشرف على هذه المناورات، والتي قد تشمل أيضاً تمارين لوحدات عسكرية بحرية. في خطوة قرأ فيها مراقبون محاولة لتسريع تنزيل مشروع القوات المشتركة الأوروبية، الذي أتت به "البوصلة الاستراتيجية" الأوروبية الجديدة.

وهو ما يؤكده حديث مفوض الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل، أن هذه المناورات تشكل خطوة متقدمة نحو بناء "الذراع العسكرية الأوروبية" المرجح أن تكتمل في عام 2025، وستكون نواتها الأولى "قوة الانتشار السريع" بقوام 5 آلاف مقاتل. مضيفاً أن قيادة هذه القوة المشتركة ستنتقل، عند اكتمالها، من هيئات الأركان الوطنية إلى "القدرة العسكرية للتخطيط والتنفيذ" التابعة لهيئة الأركان الأوروبية الموحدة.

وبالإضافة إلى هذا، تعتزم بلدان الاتحاد إطلاق برنامج تسليح مشترك فيما بينها، كانت دعت إليه المفوضية الأوروبية على لسان الممثل الأعلى لخارجيتها جوزيب بوريل، والذي قال: "يجب أن نتحرك للتعافي من سنوات نقص الإنفاق على الدفاع نحو الانتعاش ونحو الفوز بالمستقبل من خلال بناء قدرة دفاعية أوروبية حقيقية (...) علينا أن ننفق بشكل أفضل، وأفضل طريقة للإنفاق بشكل أفضل هي الإنفاق بطريقة منسقة".

ما "البوصلة الاستراتيجية" الأوروبية؟

تتضمن ورقة "البوصلة الاستراتيجية" التي أعدها جوزيب بوريل، مسؤول العلاقات الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد، شهر مارس/آذار الماضي، 4 عناصر رئيسية تشمل تعزيز دور الاتحاد الأوروبي في إدارة الأزمات، وتحسين قدراته الدفاعية، وتمكينه من مقاومة الأزمات وإقامة شراكات مع دول ثالثة.

ومن أبرز ما جاءت به هذه الوثيقة، عزم أوروبا على تشكيل قوّة عسكرية مشتركة قوامها خمسة آلاف فرد بحلول 2025، للتدخّل في حال وقوع مجموعة من الأزمات ودون الاعتماد على الولايات المتحدة.

وأوضح بوريل من خلالها أن دول الاتحاد بحاجة "إلى مزيد من السرعة والقوة والمرونة للتعامل مع مهام إدارة مجموعة كاملة من الأزمات العسكرية". مضيفاً: "نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على التصدّي للتهديدات الوشيكة أو التعامل السريع مع حالة أزمة مثل تنفيذ مهمة إنقاذ وإجلاء أو تنفيذ عملية لخلق استقرار في بيئة معادية".

وكشف بوريل في وقت سابق أنّ هذه القوة العسكرية المزمع تشكيلها لن ترتهن بمبدأ التصويت بالإجماع في إقرار تحرّكها، مبرراً الأمر بوجوب ضمان سرعة التحرّك والانتشار. بالمقابل، ترتاب عدد من الدول الأوروبية في هذا الأمر كونه يسحب من بين يديها "حقّ الفيتو" الذي كان ضامناً للديمقراطية الداخلية للاتحاد.

حلم أوروبي قديم صعب المنال؟

وتُعدّ فكرة تشكيل جيش أوروبي قديمة بقِدم الاتحاد ذات نفسه، بل وأقدم من ذلك، إذ يعود طرحها أوّل مرة إلى عقود عبر مقترح فرنسي سنة 1950 يصبو إلى تشكيل قوّة عسكرية موحّدة بين كلٍّ من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا وألمانيا الغربية. ووقّعت سنة 1952 معاهدة مؤسّسة لـ"مجموعة الدفاع الأوروبية" لم ترَ النور بعدها.

فيما برزت فكرة تشكيل قوة خاصة أوروبية مشتركة، أشبه بما جاءت به "البوصلة الاستراتيجية" في شهر مايو/أيار2021، إذ دعت 14 دولة من الاتحاد، على رأسها فرنسا وألمانيا، إلى إنشاء قوات تدخل سريع بعدد خمسة آلاف. وأرجعت تقارير صحفية ذلك إلى حاجة استراتيجية الدفاع الأوروبية إلى بديل لِلندن بعد مغادرتها.

وبات المقترح أكثر إلحاحاً من ذي قبل بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي أصاب الأوروبيين بنوع من التشكك إزاء استمرار اعتمادهم على حلف شمال الأطلسي في الدفاع عنهم. ما عبّر عنه جوزيب بوريل وقتها قائلاً: "أظهرت أفغانستان أنّ لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي ثمناً، والسبيل الوحيد للمضيّ قُدماً هو توحيد قواتنا وتعزيز، ليس فقط قدرتنا بل أيضاً إرادتنا للتحرك".

في المقابل أتى تشكيل حلف "أوكوس" الذي استُثنيت أوروبا منه، مثل "صفعة الغواصات" الفرنسية جرساً، لا جرس إنذار فحسب، بل تأكيد أنّ الاتحاد صار خارج حسابات أمريكا الدفاعية، ومعه التخوّف مِن مدى جديّتها في الاستجابة لأيّ تهديد قد يطول الدول الأعضاء.

ولا يخفى على مراقب الشِّقاق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي المستتر تارة والظاهر تارة أخرى، بالأخص حول مسألة الدفاع. وخير دليل على ذلك تعطل مشروع "منظومة الدفاع الجوي المستقبلية"، وهو اتفاق ثلاثي فرنسي ألماني إسباني، يعود إلى عام 2017، بموجبه تجدد سرب الطائرات الحربية للبلدان الثلاثة بمقاتلات من الجيل الجديد، من إنتاج شركتَي "إيرباص" و"داسو" الفرنسيتين.

يُضاف إلى هذا المخاوف الأمريكية من أن يضر وجود هذه القوة بمصالحها الاستراتيجية في أوروبا، وهو الأمر الذي دفع وزيرة الجيوش الفرنسية السابقة، فلورانس بارلي، إلى طمأنة قيادة الناتو بأنه "لا مخاوف من أداة دفاع أوروبية مشتركة، وأنّ الولايات المتحدة ستستمرّ في الاستفادة من القدرات الدفاعية الأوروبية التي سيقودها الجيش المشترك".

TRT عربي