تعود إشكالية إحالة ملفّ هيئة المساءلة والعدالة أو ما يُعرَف بهيئة "اجتثاث البعث"، لتصبح الحدث البارز في العراق بين الفرقاء السياسيين، بعد طلب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تحويل ملفات الهيئة إلى القضاء العراقي، إذ أشعل هذا القرار جدلية التفاوضات بين القوى السُّنّية في ائتلاف إدارة الدولة. وكان على رأسها المفاوضات حول نقل أوراق ووثائق هيئة المساءلة والعدالة وتحويلها إلى القضاء تمهيداً لإلغائها بعد مضيّ 20 عاماً على تشكيلها. ولكن هذه الخطوة تصطدم برفض كبير من تحالف الإطار التنسيقي الذي يترأس الحكومة الحالية في العراق، والذي يحذّر بشدة من عودة نشاط حزب البعث إلى البلاد.

بول بريمر صاحب فكرة اجتثاث البعث

بعد غزو العراق في عام 2003 أصدر الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر مع القوى السياسية آنذاك، قراراً بتشكيل لجنة "اجتثاث البعث" التي تَغيَّر اسمها في ما بعد إلى "هيئة المساءلة والعدالة".

وقد أُنشئت الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث بقانون صدر بتاريخ 16 أبريل/نيسان من نفس العام، لاجتثاث هيكل حزب البعث في العراق وفصل قياداته من مواقع السلطة. وكانت وظيفتها تقوم على توفير معلومات تكشف عن هوية الشخصيات المنتمية إلى حزب البعث من ذوي درجات عضوية محددة (عضو فرقة فما فوق) ليُفصَلوا من مرافق الدولة ومناصبها الرفيعة.

ووفقاً لذلك، حُلّ الجيش وطُرد كل من يُعتقد أنه كان عضواً في حزب البعث من الوظائف الحكومية. واستمر وجود هذه الهيئة بعد إقرار الدستور الدائم الذي نصّ في الفصل الثاني منه، الأحكام الانتقالية، في المادة 135، على مواصلة "الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث" أعمالها بوصفها هيئة مستقلة، ولضمان حماية هذه الهيئة وقانونها اشترط حلها في البرلمان بأغلبية مطلقة.

هيئة المساءلة والعدالة توضح موقفها بشأن إنهاء أعمالها

أكدت الهيئة أن إجراءات نقل أرشيف "الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة" أو حلها من صلاحيات البرلمان العراقي لا الحكومة الاتحادية المفترض أن تقدّم طلباً رسمياً قانونياً، ينصّ على إلغاء قانون "اجتثاث البعث" القديم، وتشريع قانون جديد ينص على تعديل أو إلغاء القانون القديم تماماً، وهذا ما طالبت به القوى السياسية السنية لإنهاء الخلافات على تشكيل الحكومة ثم بدء عهد جديد من الحكم في العراق.

وفي هذا السياق يقول رئيس هيئة المساءلة والعدالة باسم البدري في حديثه لـTRT عربي، إن "طلب الحكومة نقل وثائق وأرشيف وكل ملفات هيئة (اجتثاث البعث) أو ما يُسمَّى حالياً (هيئة المساءلة والعدالة)، يستلزم طلباً رسمياً إلى البرلمان العراقي الذي يصوّت بدوره على إنهاء عمل الهيئة وحلّها، ثم يصوت في ما بعد على قانون جديد لإنهاء القانون القديم".

وأضاف: "تعمل هيئة المساءلة والعدالة على ملفّ "اجتثاث البعث" منذ عام 2008 وفق القانون رقم 10. ويتطلب حلّ الهيئة فرزاً قانونياً حاسماً، تجنباً لعمليات التلاعب والتزوير في الوثائق التي وصلت إلى ما يقارب "مليوناً و200 ألف" وثيقة تخصّ أسماء شخصيات في أجهزة المخابرات والاستخبارات والأمن القومي والجيش العراقي السابق، بالإضافة إلى رجال أعمال و أصحاب نفوذ كانوا أعضاء في حزب البعث".

كما تابع البدري: "إشكالية حلّ الهيئة تتطلب مجموعة من الإجراءات القانونية التي تحتاج إلى تحويلها إلى مجلس القضاء للتحقيق والتدقيق، ثم توصيلها إلى البرلمان العراقي، بعدها يُصوَّت على إنهاء عمل هيئة المساءلة والعدالة وإلغاء القانون، وهذا بحدّ ذاته ملفّ معقَّد يستلزم اتفاق الكتل السياسية على تشريع القانون من داخل مجلس النواب".

الأحزاب السُّنّية تطالب الحكومة بالتزام اتفاقياتها

أكّد القادة السُّنة المنضمون إلى تحالف "إدارة الدولة"، اتفاقاً سياسياً مع تحالف "الإطار التنسيقي" في فترة تشكيل الحكومة يقتضي إحالة ملف هيئة المساءلة والعدالة أو ما يُعرف بهيئة "اجتثاث البعث"، إلى القضاء تمهيداً لإلغائها، وعلى الرغم من المفاوضات السياسية تحول سياقات قانونية ودستورية دون الإسراع في إحالتها أو إلغائها.

وفي هذا الصدد صرّح القيادي السني مشعان الجبوري لموقع TRT عربي قائلاً: "الاتفاق السياسي داخل تحالف إدارة قوى الدولة، الذي ضمّ الإطار التنسيقي وتحالف السيادة والقوى الكردية، الذي سبق تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، كان نصّ على جملة من الاتفاقات والتفاهمات شرطاً لتشكيل الحكومة، وكان من بينها حلّ هيئة المساءلة والعدالة، وتحويلها إلى ملف قضائي".

وتابع الجبوري: "حسم قانون اجتثاث البعث يتعرَّض لانتقادات جمّة من الأحزاب السياسية داخل الإطار التنسيقي، وفي نفس الوقت تعتبره القوى السنية ملفاً بالغ الأهمية يحتاج إلى تشريع قانون من داخل مجلس النواب العراقي، وتأتي هذه الأهمية لإنهاء الخلافات السياسية بين الأطراف المتنازعة، والتمهيد لتثبيت الاستقرار في البلاد، والتزام التفاهمات السابقة المرتبطة بتشكيل حكومة السوداني، الأمر الذي سيُقنِع الأحزاب السُّنّية بجدوى العملية السياسية من خلال تشريع قانون انتقالي تدريجي يُرسَل إلى مجلس النواب للتصويت عليه".

الإطار التنسيقي يحذّر من حلّ هيئة المساءلة والعدالة

أعرب قادة وأعضاء من الإطار التنسيقي عن قلقهم بشأن حلّ "هيئة المساءلة والعدالة" وحذروا من عودة حزب البعث إلى العراق، وأصرُّوا على عدم توريط الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني وإقحامها في أزمات سياسية في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية وأمنية.

في هذا السياق قال القيادي في الإطار التنسيقي حسن فدعم لموقع TRT عربي: "عودة البعثيين مرتبطة بحلّ هيئة المساءلة والعدالة، وهذا ملفّ شائك قضائياً ودستورياً، وهو ليس من مهامّ رئاسة الوزراء، بل من اختصاص مجلس النواب العراقي، ولا يدخل ضمن برنامج الحكومة الجديدة، إذ إن إمكانية حلّ الهيئة المذكورة تحتاج إلى تشريع قانون جديد يُنهي عملها، ثم يُصوَّت على قانون جديد من داخل البرلمان".

وأضاف فدعم: "قضية حل هيئة المساءلة والعدالة يجب التصويت عليها بـ(النصف زائداً واحد) من داخل البرلمان العراقي، وهذا يقتضي عدم التساهل مع البعثيين بتسليمهم مواقع حساسة في البلاد، وكذلك عدم السماح بعودة نشاطهم السياسي، لأن حزب البعث محظور لارتكابه جرائم ضد الإنسانية".

حلّ هيئة المساءلة والعدالة سيُنهي الخلافات السياسية

يقول المحلل السياسي بهاء الجوراني في حديثه لـTRT عربي: "مضى أكثر من 15 عاماً على تشكيل هيئة المساءلة والعدالة، وقد عملت الهيئة على إنهاء الوجود البعثي في العراق من خلال إجراءات قانونية حاسمة، أبعدت فيها القيادات البعثية المتورطة، ولكن استخدام القوى السياسية هذه الهيئة أخذ مساراً تعسفياً خطيراً كان له أبعاد سياسية استغلت القوانين لصالح القوى الشيعية على حساب الأحزاب السنية، وهذا بحدّ ذاته عمّق الصراعات بين المتنافسين على الحكم".

وتابع: "منذ عام 2008 تطالب القوى السنية بتشريع قانون يمضي نحو إلغائه أو حذف الموادّ التي تسمح للأحزاب باستغلالها ضدهم، لا سيما في ملفّ الانتخابات بمنع بعض المرشحين السُّنة من التنافس السياسي نحو البرلمان، وانتقد قادة أحزاب سُنّيّة آلية عمل الهيئة لتأخرها في حسم مئات آلاف القضايا المتعلقة بأفراد مشمولين بقرار الاجتثاث".

كما أكد الجوراني أنه لن تتوقف الأزمات السياسية في العراق دون حل هيئة المساءلة والعدالة هذه، والذهاب صوب التفاهمات التي تمحو كل الممارسات الانتقامية السابقة، وتؤسس لحكومات ديمقراطية متسامحة تخطّط لمستقبل أفضل للبلاد، وهذا من مصلحة كل الأطراف السياسية الحاكمة بالوقت الحالي في العراق".

ويبقى ملف حل هيئة المساءلة والعدالة قضية جدلية من شأنها تعقيد العملية السياسية في العراق، إذ ترى القوى السنية في العراق داخل العملية السياسية وخارجها أن اجتثاث البعث أداة قمع وورقة ضد المعارضين تظهر في الغالب مع مواسم الانتخابات، كما ترى أنها من أكثر الأطراف في العراق التي تطالب بحل الهيئة، وتعمل على تحويل هذا الملف إلى القضاء، وأن تأخر حسم أسماء المشمولين وراءه دوافع سياسية وعقابية.

من ناحية أخرى تؤكّد القوى الشيعية خطورة حلّ هيئة المساءلة والعدالة، لما فيه من خطوات سلبية تؤثّر في استقرار الحكم السياسي، وتورّط العراق في أزمات مستقبلية كبيرة، وتُعيد البلاد إلى الدكتاتورية المظلمة.


TRT عربي