مع سباق التدخل الأجنبي في بلادنا .. هل نحن في حاجة إلى حركة وطنية جديدة؟


محمد سليمان عبدالرحيم

في يناير 2011 كنت ضمن مجموعة من السودانيين مستضافاً في استديوهات قناة الجزيرة الفضائية في قطر أثناء تغطيتها لعملية استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان. وأثناء الاستراحة بين الفقرات، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع أحد المستضافين وكان من جنوب السودان، وسألته عن مشاعره في ذلك اليوم فأجابني بأنها مختلطة، “فيها ألم لأنني نشأت في شمال السودان وأعتبره وطني وكنت أتمنى لو استمر الأمر كذلك، وفيها فرح لأن الحرب ستتوقف، ولأنني في النهاية سأحظى بوطن يعاملني كمواطن من الدرجة الأولى”، ثم أضاف “ولكن، أكثر من الألم أو الفرح، أنا مندهش جداً منكم!” فسألته عن سبب دهشته فقال”كيف سمحتم بتمرير الانفصال بهذه السهولة وبهذه اللامبالاة؟ إذا كان الأمر بسيطاً هكذا فلماذا قتلتم الملايين من الجنوبيين، وحرقتم القرى والأراضي، وأبدتم الأخضر واليابس، والآن الكثيرون منكم لا يعيرون الأمر اهتماماً، بل وبعضكم يبدي بهجته، هل كنتم تقاتلون بتلك الشراسة والوحشية من أجل ما تسمونه السيادة الوطنية أم من أجل السيادة على الجنوبيين؟” كان سؤالاً مريراً، بل وأكثر مرارة من اللحظة التي كنا فيها.

سبعة وستون عاماً انقضت منذ أن نلنا استقلالنا، وبقي ثلث قرن سرعان ما سينقضي لنسأل أنفسنا “أين أصبحت بلادنا بعد قرن من الاستقلال؟”. إذا كان أبسط وأدنى مستويات الاستقلال هو تحقيق السيادة الوطنية، فلا يمكن لأي متابع أمين لأحوالنا اليوم إلا أن يقر بأن تلك “السيادة الوطنية” لم تشهد امتهاناً في تاريخنا القريب مثلما ما يجري اليوم على مرأى ومسمع من الجميع، ويشترك في ذلك كل الأطراف، مدنية وعسكرية، قبلية وحضرية، شرقاً وعرباً، وكل الأحزاب والقوى السياسية يميناً ووسطاً ويسارا، والقطاع الأعظم مما يسمى بمنظمات المجتمع المدني، الذين جعلوا بلادنا فضاءاً مفتوحاً تحتله القوى الأجنبية لتفرض إرادتها ومصالحها كما تشاء “على عينك يا تاجر” وبقوة عين غير مسبوقة. نعم، لقد وضع نظام الإنقاذ البلاد، بسياساته وممارساته الخرقاء وارتباطاته بالإرهاب الدولي والجريمة المنظمة وغسل الأموال وجرائم الإبادة التي تورط فيها محلياً وتسول البقاء بأي ثمن بما في ذلك استجداء الحماية الروسية وتوظيف الجيش كمرتزقة في حرب اليمن وغير ذلك، رهينة لمصالح أجنبية دولية وإقليمية متصارعة ومتناقضة، وهي صراعات وتناقضات أسهمت في الإطاحة به في نهاية الأمر، غير أن كل ذلك لا يقارن بما يجري الآن وبعد سقوط نظام الإنقاذ.

منذ اندلاع ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، وبفضل الصراعات المستعرة بين العساكر والمدنيين بصورة عامة، ثم بين أجنحة العسكريين أنفسهم وما أضيف إليهم بعد اتفاقية جوبا من حركات مسلحة من جانب، وكذلك بين القوى المدنية المختلفة من جانب آخر، ظللنا نشهد تصاعداً حاداً في وتيرة التدخلات الأجنبية في الشأن السوداني ولم تعد تلك التدخلات تتم في الخفاء أو على استحياء وإنما علانية وفي وضح النهار. إذا استثنينا بعثة الأمم المتحدة لمساعدة الانتقال الديمقراطي (يونيتامس) التي تتحرك وفق تفويض دولي بطلب من الحكومة السودانية، وكذلك بعثتا الإتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد وهما منظمتان بلادنا عضو فيهما، فهناك الآلية الرباعية، وهناك حجيج القادة السياسيين وزعماء الفصائل المسلحة، فرادى وجماعات، إلى الدول المجاورة ودول الإقليم، وهناك اللقاءات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية بين هؤلاء القادة السياسيين والسفراء الأجانب في دورهم، وهناك جولات هؤلاء السفراء وتنقلاتهم غير المحدودة في كل بقاع السودان ولقاءاتهم بقيادات الصراعات والفتن الجهوية والقبلية، وهناك المبادرات المطروحة من هذا الجانب أو تلك الآلية، وهناك الزعماء الطائفيين المنقولين على متن الطائرات الخاصة خصيصاً لإفشال مبادرات بعينها، وهناك دعوات زعامات قبلية لدول أجنبية لاحتلال أقاليم سودانية، ..إلخ ..إلخ.. انتهاء بدعوة السفير الأمريكي لاتحاد المعلمين للاجتماع به لمناقشة إضرابهم المزمع!!! تلك الأفعال يمكن أن ترقى إلى درجة “الخيانة العظمى” أو “تقويض النظام الدستوري” التي تشمل كل ما يؤدي إلى “المساس بأمن الدولة الخارجي و الداخلي و التآمر على حقوق الشعب، و ارتهان البلاد للعدو، أو خلق حالة من الفوضى تسهل تدخل الدول الأجنبية في شئون الدولة” وتكون عقوبتها الإعدام في الدول التي تطبق تلك العقوبة أو السجن المؤبد في غيرها.

أنا الآن، مثل صديقي الجنوبي الذي ذكرته في مطلع هذا المقال، أحس بألم ومهانة شديدين جراء ما يحدث لبلادنا، ولكن أكثر من الألم والمهانة، فأنا مندهش وحائر جداً، ومبعث دهشتي وحيرتي ليس هو مدى كثافة أو تواتر أو تعدد أوجه التدخل الأجنبي فحسب، وإنما هو الصمت والامبالاة التي تكاد تصل حد القبول لهذا التدخل الأجنبي السافر في شؤون البلاد. إن معظم من يجهرون الآن، من حين لآخر، بمعارضتهم وإدانتهم للتدخل الأجنبي، هم في حقيقة الأمر لا يعارضون التدخل الأجنبي من ناحية مبدئية، وإنما يعارضون تدخلاً أجنبياً معيناً لصالح تدخل أجنبي آخر. إن أي جريمة بسيطة عادية من جرائم انفراط الأمن في الخرطوم الآن تجد من الصدى السياسي والإعلامي أضعاف ما تجده جريرة “الخيانة العظمى” الواضحة كالشمس في رابعة النهار، كما أن حدة الصراع السياسي حول السلطة بين الجهات المدنية الطامحة والعسكريين، من جانب، و حدة الصراعات الآيديولوجية بين معسكرات المدنيين حول طبيعة وأهداف الثورة، من الجانب الآخر، تعلو على كل ما عداها من قضايا بما في ذلك “السيادة الوطنية”.

تلك اللامبالاة حيال التدخل الأجنبي لا تفسير لها، في تقديري، سوى ضعف الوازع أو الوعي الوطني في بلادنا، وهذه الظاهرة ليست أمراً جديداً، بل صاحبت ميلاد تاريخنا الحديث، وهو ما يستدعي قراءة نقدية فاحصة وصادقة لهذا التاريخ، منذ اندلاع الثورة المهدية في 1881 وإلى تحقيق الاستقلال في 1956. في مقال صحفي كهذا لا يمكننا أن نتصدى بالتفصيل لمثل هذه المهمة، ولكن يمكننا في إيجاز شديد الإشارة إلى تضافر العوامل التالية وسط القطاع الأعظم من المواطنين:
1. الثورة المهديةـ برغم طابعها الديني، كانت ثورة وطنية حقيقية انتظمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها ووحدت السودانيين جميعاً ضد الاستعمار، إلا أن حلول الدولة المهدية السريع مكان الثورة، وانغماس تلك الدولة في صراعات البقاء بالاستبداد الديني و”التمكين” القبلي والعشائري وما صحب ذلك من حروب ومجازر أدى إلى اضمحلال الروح الوطنية، بحيث رأت قبائل كبيرة وجماعات واسعة من السكان في حملة إعادة غزو السودان بقيادة كتشنر في 1898 تحريراً لهم من الاستعباد المحلي فانخرطوا فيها وساروا في ركابها وحاربوا ضمن جنودها.
2. حملة إستعادة السودان في 1898 تمت بتمويل وجنود مصريين وبقيادة بريطانية، وقد أنتجت هذه الشراكة وضعاً استعمارياً فريداً هو الحكم الثنائي، تقاسمت فيه بريطانيا ومصر أعباء وسلطات الحكم في السودان. وبدلاً من أن تستدعي ثنائية الحكم الاستعماري مضاعفة الجهد الوطني لطرد المستعمرين الاثنين معاً، فقد سمحت تلك الثنائية، وخاصة بعد عشرينات القرن الماضي، بنشؤ ما سمي بالحركة الوطنية الحديثة، والتي كانت في حقيقتها حركة “نصف-وطنية”، إذ كانت أطرافها تكتفي في نشاطها الوطني بمناهضة أحد الطرفين المستعمرين إنطلاقاً من خدمة مصالح المستعمر الآخر، ويمكننا القول أن ذلك الوضع كان وضعاً مريحاً لكل الأطراف .
3. بعد الركود الذي ساد عقب هزيمة حركة 1924، استعادت “الحركة الوطنية الحديثة” نشاطها، ولكن هذه المرة وسط فئة الموظفين خريجي المدارس الوسطى والثانوية والتي، وباستثناء مجموعة مدينة مدني بقيادة أحمد خير المحامي، انصب جل اهتمامها في مصالحها الفئوية والإصلاح الاجتماعي والخيري، وكما عبرت عن نفسها في مذكرتها التي رفعتها للحاكم العام فقد ذكر ت تلك الفئة أنه لم يكن من أغراضها “إزعاج الحكومة أو عمل شيء من شأنه إرباكها أو ممارسة الضغط عليها…”، وكان ذلك هو سقف النشاط الوطني الذي تسمح به مصالح الموظفين .

بالطبع هناك عوامل أخرى عديدة، كما أن هناك قوى نشأت خارج القطاع الغالب والتقليدي في الحركة الوطنية، مثل اليسار السوداني وحركة الإخوان المسلمين، لها مشاكلها المختلفة مثل انتماءاتها الآيديولوجية الأممية، أو مفهوم الأمة لدى الإخوان المسلمين مثلاً، غير أن تلك الطبيعة المختلفة كانت تمثل في جانب من جوانبها انتقاصاً من الوازع الوطني بصورة أو بأخرى. وبعد … فهل نحن في حاجة إلى حركة وطنية جديدة؟!

تاريخ الخبر: 2023-01-20 09:24:11
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:46
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:49
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية