صدر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، حوليات نجيب محفوظ  في 3 أجزاء وتحت عناوين "نجيب محفوظ الدين والفلسفة والثقافة، نجيب محفوظ السياسة والمجتمع والشباب، نجيب محفوظ العرب والعلم والتقدم"، بتحرير وتدقيق وتقديم الكاتب الصحفي والمحرر الأدبي مصطفي عبادة.

 وصرح مصطفى عبادة لـ"الدستور، بأن الحوليات صدرت متفرقة عبر 9 كتب بإشراف الكاتب الكبير فتحي العشري، وقد قمت بتحريرها وتدقيقها وتقديمها لتخرج على صورتها الآن في ثلاثة أجزاء، وقبل أن أعمل عليها، لم تكن مصنفة موضوعيا ولا مشروحة ولا مخرجة، واستغرق العمل عليها ثلاث سنوات كاملة.

أكثر من ألف مقال 

مما جاء في مقدمة الحوليات للكاتب الصحفي والمحرر الأدبي مصطفي عبادة كتب نجيب محفوظ أكثر من ألف مقال، على مدى حياته الطويلة، وبدايته مع فن المقال، أسبق من إبداعه الروائي، وتنوّعت هذه المقالات موضوعيًّا بين ثلاثة حقول كبيرة، أولها، وأكثرها عناية من نجيب محفوظ: حقل الدين والفلسفة والثقافة، والتي بدأ يعبر عنها وينشرها في الصحف منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وهي آراء كانت متأثرة بدراسته لعلم الفلسفة، فاتسمت آراؤه الأدبية بعمق فلسفي، وظهرت ميوله الأدبية السردية بخاصة، على مقالاته الأدبية، وهو إذ جمع الأدب والفلسفة في عنوان واحد، فلأنه يرى أن الحقلين متقاربان، بل وربما يصدران من منبع واحد، ويخاطبان خيالًا واحدًا، ويشكلان معًا ذائقة متكاملة، يمكنها أن تمتلك رؤية، وموقفًا واضحًا من الحياة والكون.

تولد الاتجاهات السياسية 

وقال عبادة إنه ومنذ مقال «احتضار معتقدات.. وتوّلد معتقدات» يرصد نجيب محفوظ تولّد الاتجاهات السياسية والفلسفية الجديدة، التي ستهيمن فيما بعد على مجمل القرن العشرين كله، وكيف أن المعتقدات القديمة التي قامت عليها مدنيات بأسرها، تخضع للنَقد والتحليل بل والتسفيه أحيانًا، فهي وإن كانت قد أقامت مدنيات عمّرت قرونًا، فإنها تحتوي في باطنها على خرافات لا يقبلها العقل بحالٍ من الأحوال، وكانت غاية النقد الذي تتعرض له هذه المعتقدات القديمة: أنه إذا كان معتقد ما أساسًا لمدنيته، فقد آن الأوان لانهيارهما معًا، ونحن نشاهد في عصرنا هذا - ثلاثينيات القرن العشرين - أن جميع العقائد القديمة؛ التي اطمأنت لها النفوس أجيالًا طويلة أخذت تتزعزع رويدًا رويدًا، وتتزحزح عن مكانتها الأولى شيئًا فشيئًا، وذلك بنقد المفسرين الجدد لهذه المذاهب والمعتقدات، لما كتبه المفسرون القدامى، ينطبق ذلك على الديانات، ومذاهب الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت بين أيدينا مجموعة وافية من الكتب والقصص تبعث قراءتها على الشك في الماضي بآرائه ومعتقداته، أو تدعو إلى مذهب جديد كالاشتراكية والعالمية.

وأضاف أن الحقل الثاني هو السياسة والمجتمع والشباب، وهي تتناول قضايا غاية في الخطورة، ولا تزال تناقش في حياتنا حتى اليوم، وكأنه لا زمن مَرَّ، ولا ثورات وانتفاضات شعبية هبّت، وغيّرت مفاهيم البعض، وكأنه لا قرن انتهى، وبدأ آخر، بلغت فيه البشرية، ما بلغت من الرقي الإنساني والتطوّر الحضاري، والقفزات المذهلة تكنولوجيًّا، هذه القضايا تمثلّت في: أولًا: علاقة الدين بالمجتمع ودوره في التحضَّر أو الثبات، وعلاقته بالديمقراطية بشكل خاص والعملية السياسية بشكل عام، حيث يرى نجيب محفوظ: «أن الدين ليس علمًا من العلوم، ولا فرعًا من المعرفة، ولكنه تربية روحية يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك والرؤية».

وذلك في: قسم «الدين»، والذي يضم مقالات محفوظ في هذا المجال، وقد كان موزعًا في العديد من الكتب، وتم جمعه في هذه الطبعة ليصبح قسمًا مستقلًا، يمكنه أن يعطي صورة واضحة عن تصوّرات وآراء محفوظ في الدين وعلاقته بالسياسة، وقد بدأت هذه المقالات عام 1974م بمقال «الدين والمدرسة»، وانتهت بمقال «توترات مرضية» عام 1994م، أي أنه يضم آراء نجيب محفوظ، على مدى عشرين عامًا، وقد كتب المقال الأخير قبل أن يتعرَّض الرجل للطعنة الغادرة أمام منزله، ثم صمت بعدها ولم يقرَب موضوع الدين في مقالاته أبدًا، لأن صحته وهنت من ناحية ومن ناحية ثانية لأن الإرهاب كان قد توَحش، قبل أن تدخل الدولة معه معركة حامية وتقضي عليه مؤقتا. وكان الرجل يعبّر عن وجهة نظره - بعد ذلك- عبر حواراته سواءً مع الكاتب محمد سلماوي، وهي حوارات طويلة وممتدة، أو في حواراته للصحف والمجلات، وكان لا يرد طالب حوار أبدًا، ما دامت صحته تسمح به، سواءً كان هذا الطالب صغيرًا أو كبيرًا.

رأي محفوظ في التيارات الإسلامية  قبل اختبار الشعب لحكمها 

لفت عبادة إلى أن نجيب محفوظ، الذي طعنه متطرّف إسلامي، كان يدافع عن حق التيارات الإسلامية، وأهمية أن يكون لها حزب يعبِّر عن آرائها ومشروعها الحضاري، وأن تكون جزءًا من المعارضة الرشيدة التي تهدف إلى خدمة الوطن، لا أن تستأثر به وحدها، وذلك طبعًا قبل أن يختبر الشعب المصري حكم جماعة الإخوان المسلمين لمدة عام من يونيو 2012 حتى يونيو 2013م، ولأن القدر كان رحيمًا بنجيب محفوظ، فتوفي قبل أن يرى مأساة حكم التيارات الإسلامية لمصر، وعلى أن ذلك لا ينتقص من آراء نجيب محفوظ، الليبرالي، المؤمن بالحرية للجميع، ابن ثورة 1919م، التي كانت جامعة لكل أطياف الشعب المصري بشكل عفوي، وكانت بداية تجلّي الروح المصرية. وفي هذا السياق يفرِّق نجيب محفوظ، بين التطرف والانحراف، حيث: «يمثّل التطرّف بلوغ الغاية القصوى في الإيمان بأية عقيدة، تنتمي إليه الصفوة المجاهدة المؤسسة على العلم والأخلاق، والمستعدة دائمًا وأبدًا للبذل والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى، أما الانحراف فهو الخروج عن الحدود بضغط من انفصال أهوج قائم على الجهل، مسُوقٍ بالتضليل مندفع إلى الأذى والعدوان».

عن العرب والعلم والتقدم 

ويختم عبادة مقدمته بأن الحقل الثالث، هو العرب والعلم والتقدم، وفيه يحمل نجيب محفوظ على فكرة «السياسي المستقل»، ويسأل نجيب محفوظ: مستقل عن ماذا؟ فالسياسي في نظر نجيب محفوظ إمَّا يسار أو يمين أو وسط: «ما جدوى الاستقلال اليوم؟ ما مغزاه، وما هدفه؟ ربما كان الشخص الذي لم يجد ذاته لا في اليمين ولا في الوسط ولا في اليسار، وإنه لاستقلال سلبي عجيب ينفي عن صاحبه أية هوية، ويجعل منه شخصًا بلا صفات سياسية حتى ليتعذر علينا تصديق ما يدّعيه، وفي جميع الأحوال فالترشيح على أساس الاستقلال عودة إلى انتخاب الشخص بصفته الشخصية لا كممثل لرأي ونحن نريد لانتخاب «الرأي» أن يبرز ولانتخاب الشخص أن يندثر»، والانتماء في رأي نجيب محفوظ هو أساس العمل السياسي.