ومن يحرس الحرس؟... «3».. من هم هؤلاء الحرس اليوم؟.


ومن يحرس الحرس؟… «3».. من هم هؤلاء الحرس اليوم؟.

مهدي رابح

“تورّط الجيوش في السياسية الوطنية في أفريقيا لم يكُن حدثاً تاريخيا عارضاً. بل تكمن جذوره في الاستعمار بحد ذاته، والذي اعتَمَد لترسيخ سلطتهِ على الإخضاع والإكراه والعنف مستعيناً بالقوى الامنية بصورة منهجية لفرض الهيمنة الأجنبية على الشعوب الأفريقية، التي اُعتُبرت بدورِها بمثابة رعايا للمستعمِرْ.”

امبيمبي 1990م

“كنتاج للانقلابات العسكرية المتكررة، أصبحت السلطة بدلا ان تكون تحت سيطرة من يمتلكون وسائل الإنتاج محصورة في أيدي ضباط عسكريين يسيطرون على وسائل الدمار. ”

علي مزروعي 1996م

“خلال الحكم الاستعماري كان الجيش أداة استخدمت للقهر والقمع السياسي والاجتماعي.

بُعيد الاستقلال ورثت الدول الافريقية أجهزة دولة بالغة الهشاشة فبجانب انها تستند علي القمع العسكري فهي ولمدي بعيد ظلت معزولة عن شعوبها.

في عديد الحالات فان قادة الدول ما بعد الاستعمار عجزوا عن تحويل بلادهم وكمثال لذلك عجزهم عن الوصول الي “عقد اجتماعي” كان يمكنه ان يوفر شرعية واساسا لبناء نظام حكم ديموقراطي.

بإيجاز فان الضرورة السياسية للبقاء حتمت علي غالب هؤلاء القادة استغلال الجيوش او السماح للجيوش باستغلالهم.”

بانغورا 1992م، كولمان وبرايس 2005م، كولييه 2009م

ربما علينا وبنظرة شجاعة للواقع الحالي للقوات الحاملة للسلاح- ورغم سجلنا غير المشرف كأكثر الدول الافريقية تعرضا لمحاولات الانقلابات العسكرية كما وضحنا في المقال الافتتاحي من هذه السلسلة- ان نتحسر على تلك الازمان الندية التي تميزت بالبساطة, فلم يكن الامر يتطلب في الغالب اكثر من تآمر حفنة صغيرة من المدنيين الحاملين لمشروع عقائدي لتنظيم سياسي شمولي (الشيوعيين والعروبيين 1969م والاسلامويين 1989م) مع مجموعة صغيرة من الضباط هم في الغالب خلايا تنتمي لهذه التنظيمات، تمت زراعتها في هذه المؤسسة منذ بعض الوقت، للسيطرة علي الأسلحة المؤثرة في الجيش وبعض المرافق الأساسية كالإذاعة ليبدأ عهد جديد من الديكتاتورية المدمرة  العضوض، ذلك ان الجيش حينها كان بالفعل يحتكر القوة العسكرية لوحده.

إذا ما هو الوضع اليوم؟…

ككل الأنظمة المستبدة الآتية للحكم علي ظهر دبابة والمستندة علي شرعية بالغة الهشاشة ظل الهم الأساسي للجنرال البشير وشركائه الاسلامويين هو منع الانقلاب عليهم من أي قوة مرة اخرى لذا عمدوا الي عملية تطهير بالغة للعناصر الوطنية او تلك التي يشتبه في ولائها لمشروعات سياسية مختلفة وقاموا بعملية تسييس عميقة ليس للجيش فحسب بل لكل مؤسسات الدولة القومية المدنية ايضا وذهبوا كما تفعل الأنظمة المشابهة الي ابعد من ذلك بعسكرة الفضاء المدني والتأسيس لمليشيات مدنية سياسية مسلحة كالدفاع الشعبي والامن الشعبي وجهاز الامن شكلت بجانب فاعليتها الكبيرة في قهر وقمع المواطنات والمواطنين ثقلا يوازن القوة التي يمثلها الجيش وحصنا منيعا امام أي محاولة انقلابية محتملة قادمة من الاخير.

مع تقدم سنوات عهد “الإنقاذ” وتآكل شرعية نظامه الفاسد حتي النخاع وتشظي الصف الإسلاموي وبروز طموحات لبعض الشخصيات النافذة في مقدمتهم مدير جهاز الامن سيئ الصيت صلاح قوش وقوات هيئة عملياته التي تدين له بالولاء التام فان البشير وحاشيته المقربة حينذاك وبخطوة استباقية لحماية كرسيه عمد الي فصل قوات الدعم السريع عن جهاز الامن (هي في الأساس قوة مسلحة قبلية أصبحت منسوبة بحكم قانون مستحدث لجهاز الامن منذ  العام 2013م وعملت علي مواجهة الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة ولاحقا في عمليات السيطرة علي الهجرة غير المشروعة الممولة مباشرة وبميزانية كبيرة من الاتحاد الاوروبي) وضمها الي المؤسسة العسكرية ظاهريا لكنها في حقيقة الامر ظلت وظيفيا تحت إشراف البشير المباشر وقيادة وسيطرة القائد القبلي “حميدتي” وظلت أيضا مصدرا إضافيا لإثراء الحاشية الحاكمة خصوصا بعد تورط البشير في حرب اليمن.

هذا التطور خلق من الدعم السريع قوة عسكرية شبه نظامية ذات استقلالية كبيرة، وهي سمة تعمقت بعد سقوط النظام بعد ثورة ديسمبر 2018 المجيدة واثمرت نفوذا سياسيا واسعا وطموحا لا يحده حدود لقائدها  كما وضح جليا في مشاركته الفعلية في انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي واضحت بذلك وبما تملك من علاقات إقليمية وموارد مالية ومستشارين مؤهلين مدفوعي الاجر وترسانة واسعة من الأسلحة القتالية وعددا يقدر بما يفوق المئة الف من الجنود والضباط (مركز القرار يتركز حول المنتمين لعائلة وعشيرة دقلو لكن بعضهم من المحترفين من معاشي او منتدبي المؤسسة العسكرية ذاتها) وهو ما قوض بصورة لا لبس فيها من احتكار المؤسسة العسكرية للقوة القتالية ومن هيبتها ايضا في نظر الجمهور, فارضا واقعا ماديا جديدا لا يمكن انكاره ووضعا يشذ عن مرتكزات الدولة الحديثة ويهدد استقرارها ولا يمكن معالجته بالتمنيات او بالشعارات التبسيطية السهلة رغم جمال مضامينها ونبل مقاصدها.

جاءت اتفاقية جوبا بثالثة الأثافي (والأثفية هي أحد الأحجار الثلاثة التي يوضع عليها القدر ليتعرض لنار الطهي)، فبجانب عديد المدنيين الانتهازية المساعدين لتوفير حاضنة سياسية لشرعنة اي انقلاب عسكري، انضمت للعملية السياسية حركات حاملة للسلاح أصبحت وفي انتظار ادماجها في المؤسسة العسكرية بموجب الترتيبات الامنية المعقدة الملتبسة وغير الواقعية الي حد كبير في وضع شبه رسمي وإن كان أقل رسمية من وضع قوات الدعم السريع، فهي حاملة للسلاح التالي بصورة تعتبر قانونية.

يمكن تصنيف غالب حركات الكفاح المسلح طوال تاريخ السودان الحديث بأنها ثورات ريف فاشلة، بدأت في عملها المقاوم حاملة شعارات العدالة الاجتماعية ورد المظالم التاريخية لكن كثير من قادتها يحملون اجندات مظالم نخبوية الي حد بعيد، وخير معبر عن ذلك هو الكتاب الأسود المنشور في العام 2000م والذي، رغم حقيقة الظلم و التهميش البالغ  الذي تعرضت له شرائح واسعة من الشعب السوداني منذ الاستقلال ، انحصر في ايراد الجزئية الخاصة بحصة أبناء إقليم دارفور مقارنة بالمنتمين للشمال والوسط النيلي في السلطة المركزية بطبيعتها، ولم تجد قضايا الناس على الأرض من عجز للخدمات العامة والبني التحتية أو انهياراً للاقتصاد الريفي اهتماما يذكر، وهي سمة ربما عززت فشل اغلبها (باستثناء جيش تحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو) من السيطرة على مساحات من الأرض وتعزيز سلطتها علىها وحكم الشعوب المستقرة هناك كدولة موازية في مقدورها تقديم الخدمات وتحسين حياتهم وتوفير خيارات افضل (كموسفيني في يوغندا، وزناوي وافورقي في إثيوبيا وإريتريا لكن ربما أنجح نموذج لذلك هو ثورة تحرير غينيا بيساو والراس الأخضر بقيادة أميركال كابرال في ستينيات القرن الماضي)، وهو ما حولها الي حركات مسلحة غير مستقرة تفتقد للدعم الشعبي وللموارد وتضطرها أحياناً إلى استهداف مصالح وممتلكات السكان أصحاب القضية أنفسهم أو تبني أسلوب المقاولة والتورط في نزاعات خارج الحدود بمقابل مادي متفق عليه.

هذه العوامل مجتمعة، كما أشار إليها تحليل ذكي للدكتور مجدي الجزولي وهو ما دفعها في منتهى الامر الي تحويل قوتها القتالية الي ثقل تفاوضي على أجندة نخبوية بامتياز تتمثل في حصص من السلطة المركزية كما حدث في عديد الاتفاقات مع نظام البشير وهو ما يفسر ايضا اصرار عديد منها الوصول إلى اتفاق جوبا 2020م مع الجانب العسكري منفردا ورفضهم مشاركة الحرية والتغيير الفاعلة مستغلين سلبية رئيس الوزراء آنذاك د. حمدوك الذي ولأسباب تظل غامضة حتى اليوم قرر التخلي عن هذا الملف المصيري وتسليمه للمكون العسكري في المجلس السيادي هكذا ضربة لازب.

وبما أن عديد هذه القوى لا يمتلك القواعد الشعبية اللازمة للوصول إلى السلطة عبر انتخابات مستقبلية فهي لا ترى اي مصلحة لها في التحول المدني الديموقراطي وهو ما يفسر موقفها العدائي من القوى المدنية الساعية للديمَقواطية رغم وجود كثير منها في تحالفات قديمة، ومشاركتها بفعالية في الاعداد وتنفيذ انقلاب 2021م، لكن الأخطر من ذلك، وهذا ينطبق على الدعم السريع ايضا هو انها قوي تعيش دوما  داخل ما أسميه “الدائرة الجهنمية”، فللبقاء والاستمرار في الوجود فهي في حاجة مستمرة إلى تقوية جيوشها ولتحقيق ذلك فهي في حاجة الي مزيد الموارد ومن أجل مزيد الموارد تحتاج إلى مزيد السلطة السياسية وللحصول على مزيد  السلطة السياسية تحتاج إلى تقوية جيوشها… وهكذا دواليك الى ما لا نهاية.

وهي دائرة جهنمية لا سقف لما قد تستهلكه من الموارد او للكلفة البشرية التي قد يدفعها الشعب السوداني في حال انهار توازن الضعف الحالي ودخلنا في نفق حرب اهلية مدمرة  لا تبقي ولا تذر.

إذا فإن السودان الان هو بمثابة قدر يغلي فوق الاثافي الثلاث التي ذكرت هنا وفي المقالين السابقين، فكيف يمكن أن يكون هنالك اي احتمالية نجاح لإطفاء هذه النيران المخبأة تحت الرماد؟، وكيف يمكن كسر تلك الدائرة الجهنمية الخطيرة؟، وكيف يمكن استعادة مسار انتقال يضعنا فعلا على أعتاب طريق التحول المدني الديموقراطي الطويل المضني؟، وهو ما سأجاهد لطرح بعض الإجابات عليه، المنطقية قدر الإمكان، خلال ما تبقي من سلسلة هذه المقالات.

يتبع…

ومن يحرس الحرس؟… «2».. نبذة تاريخية

تاريخ الخبر: 2023-01-21 00:23:44
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 54%

آخر الأخبار حول العالم

نادي الشباب السعودي يسعى لضم حكيم زياش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:26:30
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 68%

وزير الخارجية الإماراتي يلتقي زعيم المعارضة الإسرائيلية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:27:10
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

نادي الشباب السعودي يسعى لضم حكيم زياش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:26:34
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

وزير الخارجية الإماراتي يلتقي زعيم المعارضة الإسرائيلية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:27:12
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية