عزيزي القارئ، حدثتك في المقال السابق عن الجذور الفرعونية للحن القبطي التي جعلته مميزا عن أي لحن آخر. واليوم دعني أستكمل معك هذا الحديث الشيق والذي يسألني عنه الكثير من الشباب.

فبالرغم من أن الموسيقى المصرية القديمة الفرعونية معروفٌ ارتباطها القوى والمنطقى بالرقص، إلا أنه استطاعت الكنيسة القبطية أن تفصل الرقص عن موسيقاها وتمنعه تماماً مثلما منعت الآلات الموسيقية. لأن هدف الكنيسة كان واضحاً منذ البداية أن تقطع كل ما له صلة بالعبادات الأخرى من آلات موسيقية ورقص وألحان وتصفيق إلى آخر هذه الصور.

ويمكن القول أيضاً انه حتى مقامات الموسيقى القبطية هي مقامات فرعونية، فلحن ” Joljo0a ” الذي يُرتل به في الكنيسة القبطية في الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة، هو من مقام “مى بيمول” الكبير، وهو المقام الذي نُسب اكتشاف أبعاده لـ “فيثاغورث” الذي عاش في مصر 22 سنة في القرن السادس قبل الميلاد. وعن هذا اللحن كتب أيضاً “فـيلو Philon” (20 ق.م – 54 م) هذا الفيلسوف اليهودى السكندري الذى حاول أن يشرح الدين بتعابير الفلسفة اليونانية، وأكثر استعمال الطريقة الرمزية، وكان له تأثير جَدّى على آباء الكنيسة الشرقية والذيعاش الفترة الأولى لتأسيس الألحان القبطية فقال:-

“إن جماعة المسيحيين الأولين قد أخذوا ألحاناً من مصر القديمةووضعوا لها النصوص المسيحية ومن بين هذه الألحان، لحن “Joljo0a ” الذى كان يرتله الفراعنة أثناء عملية التحنيط وفى مناسبة الجنازات”.

وببساطة شديدة يمكن القول إذن أن المقام الكبير هو مقام فرعوني أصيل، إستخدمته الكنيسة القبطية ضمن مقامات أخرى عديدة فرعونية حتى وإن كانت قد حملت فيما بعد أسماءً فارسيةًوتركيةُ، مثل الصبا والبياتي والجهاركاه والسيكاه والهزام ..،….، إلى آخره من هذه المقامات، فأصل هذه المقامات هو فرعونى مصرى أصيل.

و لقد قام فريق من كبار الباحثين المتخصصين فى الموسيقى والكمبيوتر وكان على رأسهم

Prof. Ropert Gribbs-University Sacremento-California State ، ود.”فتحى صالح” الأستاذ بكلية هندسة جامعة القاهرة، وأ.”محمود عفت” الأستاذ بمعهد الموسيقى العربية أكاديمية الفنون بالقاهرة، هؤلاء قد قاموا بإجراء أبحاثاً واسعةً على آلات النفخ المحفوظة بالمتحف المصرى والثلاثة كانت تشغلهم منذ فترة فكرة أن الموسيقى كانت تشكل فى حياة الفراعنة اهتماماً كبيرا، ولابد أن يكونوا قد سبقوا اليونانيين فى وضع القواعد العلمية لعلم الموسيقى. وأسفرت أيضاً نتائج البحث عن نتيجة علمية هامة باستخدام الكمبيوتر، إذ أثبتوا في عام 1991 أن المصريين القدماء هم أول من اكتشفوا السلم الموسيقى الخماسي Pentatonic Scale الذى استعمل فى الدولة القديمة ثم طوّروه مع بداية الدولة الحديثة إلى السلم الموسيقى السباعى Seven Note Scale of Amino ووفقاً لهذا التقرير فإن القدماء المصريين هم أول من عرف الموسيقى، وأن ما نسب إلى فيثاغورث عالم الرياضيات اليونانى الشهير باكتشافه هذه السلالم الموسيقية، هو مجرد خلط لأوراق التاريخ الواضحة!!

وهناك جماعة يهودية تسمى “الثيرابيوتا” كتب عنها المؤرخ اليهودي السكندري فيلو في كتابه “حياة التأمل” كانت تقيم هو حول بحيرة مريوط بالأسكندرية فى حياة شبه رهبانية، وهذه الجماعة لجأت إلى بعض المعزوفات الموسيقية كانوا يستمدونها من المصادر الفرعونية القديمة.

لذلك فالبعد التاريخي للألحان القبطية يضعها في منزلة عالية جداً فوق موسيقات الشعوب الأخري. كما أنه يكفي فخراً أن أول كنيسة في العالم رنمت “التسبحة الشاروبيمية” هي كنيسة الإسكندرية، وبالتحديد في القداس المرقسي. إذ تقول كتب التاريخ أنه “نشأت هذه التسبحة أولاً في كنيسة مصر، إذ عرفتها قبل غيرها من كنائس المسكونة، ومنها إنتشرت في كل أرجاء العالم المسيحي”. ثم شرحت هذه الكتب بالتفصيل كيفتوصل علماء الليتورجيا إلى هذه النتيجة بالإثباتات والبراهين.

عزيزي القارئ، أتمنى أن أكون قد إستطعت أن أشرح لك أهمية البعد التاريخي كأحد أهم أبعاد اللحن القبطي، وجذوره الفرعونية، فإلى أن ألقاك في مقال جديد نتحدث فيه عن البعد الموسيقي للحن القبطي، اتركك مستمتعا بتسابيح الرب الجميلة في كنيستنا القبطية.