حول السياسة الخارجية الأمريكية.. المسكوت عنه في تيارات الإعلام (2)
حول السياسة الخارجية الأمريكية.. المسكوت عنه في تيارات الإعلام (2)
أستكمل اليوم عرض الشهادة التي بدأتها الأسبوع الماضي حول السياسات الخارجية الأمريكية التي تحكم وتتحكم في الأحداث العالمية التي نعايشها, وذلك من خلال ما أدلي به جيفري ساكس الباحث الاستراتيجي والاقتصادي والأستاذ في جامعة كولومبيا لبرنامجالديموقراطية الآن ومقدمه خوان جونزاليز (بالمشاركة مع إيمي جودمان)… كان عنوان الشهادة: ما هو المسكوت عنه في تيارات الإعلام؟ حيث توجه إليه مقدم البرنامج بالسؤال التالي:
* كيف تفسر إصرار الولايات المتحدة ـ وباستدراج المجموعة الأوروبية معها ـ علي استمرار هيمنتها علي العالم في الوقت الذي نشهد تراجع القوة الاقتصادية للعالم الغربي, والدليل علي ذلك ما ذكرته من أن مجموعة دول بريكس ـ البرازيل, روسيا, الهند, الصين وجنوب أفريقيا ـ تمثل نحو 40% من تعداد سكان العالم وناتجها القومي الإجمالي يفوق مثيله لدي مجموعة السبع ـ أمريكا, كندا, إنجلترا, فرنسا, ألمانيا, إيطاليا, اليابان ـ لكن بالرغم من ذلك يتم التنكر لمصالحها وعلي رأسها روسيا والصين اللتان تقوم الإدارة الأمريكية بتصويرهما للشعب الأمريكي في صورة المعتدين الغاشمين اللذين يخلقان القلاقل حول العالم.
** ويقول جيفري ساكس: مجموعة السبع تمثل ما لا يتجاوز 12.5% من تعداد سكان العالم, لكنها تصر أن لها الحق في الانفراد بإدارة شئون العالم كما كان الحال طوال القرنين الماضيين منذ عصر الثورة الصناعية… وهي ترفض أن تعترف بأن التغييرات التي يشهدها العالم لم تعد تسمح باستمرار هذه الهيمنة, فامتلاك نواصي الحكمة والمعرفة والعمل والتكنولوجيا لم تعد مقصورة علي مجموعة السبع, بل امتدت إلي سائر دول العالم… لكن تظل الولايات المتحدة رافضة للاعتراف بذلك, الأمر الذي يعكس جهلا ملفتا من جانب القادة الأمريكيين بحقائق التاريخ المعاصر, فهم يقولون: كيف تجرؤ الصين علي النهوض؟.. كيف تجرؤ علي اختراق عالمنا؟.. كيف تجرؤ علي احتلال مكانة مساوية لنا؟.. هنا فشلت السياسة الأمريكية في قبول الصين كدولة متعافية من ميراث تخلف ومشاكل ممتدة عبر قرن ونصف قرن إلي الوراء, فما كان منها إلا أن وضعت الصين في صورة العدو الذي يتوجب إيقاف صعوده وعرقلة تقدمه إلي الساحة العالمية.. وبلغ غرور صانعي السياسة الأمريكية في عهد الرئيس أوباما أن قالوا: هذا حقنا نحن فقط دول العالم الغربي ومجموعة السبع.. نحن من نحدد قواعد اللعبة, وسنكتب قواعد التجارة العالمية مع مجموعة جنوب شرقي آسيا, ولن نسمح للصين بأن تكتب تلك القواعد.
* خوان جونزاليز: أود أن أعود للوراء إلي تسعينيات القرن الماضي حين حلت بالمكسيك كارثة الانهيار الاقتصادي, ووقتها هرعت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلي تخصيص منحة إنقاذ قدرها 50 بليون دولار لانتشال المكسيك من أزمتها.. وفي ذاك الوقت كانت روسيا الخارجة من انفراط عقد الاتحاد السوفييتي تعاني من كارثة اقتصادية أكثر من المكسيك.. فماذا حدث؟
** جيفري ساكس: وقتها كنت أشغل منصب الموجه الاقتصادي لكل من بولندة والاتحاد السوفييتي إبان حكم الرئيس جورباتشوف ومن بعده الرئيس بوريس يلتسين في مستهل خروج روسيا من رحم الاتحاد السوفييتي (1992 ـ 1993) وكانت مهمتي بلورة كيفية انتهاج السياسات التي تعمل علي انتشال كل من بولندة وروسيا من أزماتهما الاقتصادية بغية إنقاذهما من الانهيار الاجتماعي والجيوسياسي.. وكانت توصياتي تتمحور حول سبل تدخل العالم الغربي لتحقيق ذلك.. الغريب أنه في ذلك الحين بينما قبلت توصياتي من جانب الولايات المتحدة فيما يخص بولندة, رفض البيت الأبيض المضي في إنقاذ روسيا واستغرقني الأمر بعض الوقت لأتبين النوايا المبيتة وراء ذلك, وهي أنه لا نية بتاتا للإدارة الأمريكية لقبول روسيا في صورة القادم الجديد للمسرح الدولي والذي يمكن أن يهدد الهيمنة الأمريكية عليه.
وشهدت السنوات التالية لذلك- في عهد ديك تشيني, ووولفويتز ورامسفيلد ـ خلال إدارة جورج بوش الابن بزوغ مشروع القرن الأمريكي الجديد إيذانا باستمرار الهيمنة الأمريكية علي مسرح السياسة العالمية وترسيخ معايير القطب الأوحد الذي يحكم العالم… وذلك تبلور سريعا بالتناقض مع جميع العهود التي قطعتها أمريكا لكل من جورباتشوف ويلتسين بضمان الأمن القومي لروسيا, حيث سارعت إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون بمد نطاق حلف شمال الأطلنطي ناتو إلي كل من بولندة والمجر وجمهورية التشيك, ثم جاءت إدارة جورج بوش الابن لتضم إلي ناتو سبع دول هي بلغاريا, رومانيا, سلوفاكيا, سلوفينيا, ودول البلطيق الثلاث… وكان مسك الختام في محاصرة روسيا ما أعلنه بوش عام 2008 أن ناتو سوف يعمل علي ضم كل من جورجيا وأوكرانيا لإحكام حصار روسيا في البحر الأسود.
وبالتوازي مع تلك الخطة الشيطانية لحصار روسيا شرعت الإدارة الأمريكية لترسيخ هيمنة القطب الأوحد علي العالم بتأجيج حروب في أماكن عدة أسفرت عن إسقاط نظام صدام حسين في العراق, والعمل علي إسقاط نظام الأسد في سوريا, وإسقاط نظام القذافي في ليبيا..وبعد ذلك الدمار الذي أحدثته السياسة الأمريكية, ها هي الآن تفتح جبهتين جديدتين للهيمنة علي المسرح العالمي: جبهة أوكرانيا لإنهاك روسيا وجبهة تايوان لإنهاك الصين.. ولا تأبه السياسة الخارجية الأمريكية بما يحمله ذلك من تهديد رهيب للسلام العالمي وما يتسبب فيه من دمار وخسائر.. كل ذلك في سبيل تأمين بقاء أمريكا في موقع القطب الأوحد وعرقلة قدوم أي شركاء جدد لقيادة العالم.