دراسة علمية تكشفُ عن تكريس تعاونيات فحم جرادة للتهميش والإقصاء الاجتماعي


رضوان بنتهاين - متدرب

سلطت دراسة حديثة نشرت بمجلة The Extractive Industries and Society العلمية بموقع ScienceDirect تحت عنوان "إضفاء الصفة الرسمية للتعدين بالمغرب: تحليل نقدي لتعاونيات تعدين الفحم بجرادة"، (سلطت) الأضواء على الدور الذي تلعبه تعاونيات تعدين فحم جرادة في تعزيز التهميش الاقتصادي الذي تعاني منه الفئة الهشة من عمال مناجم فحم المنطقة، في تعارض تام مع الصورة التي تحملها التعاونيات كآلية لتكريس المساواة، ولكن في تناغم كلي مع الخطوات التي تم تتبعها إزاء تنفيذ المبادرة الحكومية لإضفاء الصفة الرسمية على تعدين الفحم وإنشاء هذه التعاونيات بالمنطقة، بحيث صرح البحث بأن هذه المبادرة قامت منذ بزوغها بتهميش المعدنين، وهو ما يتجلى في خطواتها إضافة إلى الشك الذي عبر عنه عدد من المعدنين تجاهها.

فبدأت تجليات هذا الواقع المناقض لمنظور التعاونيات كوسيلة لتعزيز المساواة والإدماج الاقتصادي بالظهور، حسب الدراسة، منذ بداية مسار المبادرة – والتي أتت كإجراء طارئ ردا على "حراك جرادة" الذي عرفته المدينة بين عامي 2017 و2018 نتيجة موت أخوين من المعدنين جراء الظروف الخطرة للعمل واحتجاجا على غياب البدائل الاقتصادية بالمنطقة. وأشارت الدراسة في هذا الصدد إلى 3 عناصر تُمثل لهذا الواقع: وهي التحديد والأمن والتركيز.

تحديد التعاونيات

يتعلق الأمر بما وصفه أحد المعدنين بالعمل "الكاسح" الذي سعى إلى تحديد عدد المعدنين المنتمين إلى التعاونيات ابتداءً من ديسمبر 2019، بحيث تم تحديد 60 تعاونية في حدود ديسمبر 2021، إلا أنه كما أشار المُعدّن ذاته، في مقابلة له مع أنا ديسرتين، منجزة البحث، فإن نشاط تعدين الفحم له طابع متقلب، بحيث يتداول المعدنون الحرفيون العمل في حفر مختلفة بشكل يومي، كما يتغير النشاط بمرور الوقت (غالبا على شكل موسمي)، "مع بدء بعض العمال لنشاطهم بنفس سرعة إيقافهم له"، وهكذا تم تطويق عدد المستفيدين من المبادرة من خلال تثبيت الوقت.

 فضلا عن ذلك، فقد أشارت الباحثة على الإقصاء الواقعي الغير المباشر لهؤلاء الذين لم ينتموا أو لم يباشروا بعد بالانضمام إلى التعاونيات خلال هذه الفترة، بحيث باتت عملية التحديد "أشبه بنوع من المصادقة تقوم بإقصاء هؤلاء الذين لم يتم تحديدهم (ولا يمكن تحديدهم)، وهم غالبا في الظروف الأكثر خطورة والأقل قدرة على الولوج لمختلف الهياكل المؤسساتية".

ولم تقتصر عملية الإقصاء على العامل الزمني، بل تمثلت كذلك من الناحية المكانية، وذلك من خلال انتقاء الحفر الوظيفية (أي تلك المملوكة من طرف التعاونيات) وغلق الحفر الغير المقننة والمتخلى عنها، بحيث تم سد ما يقارب 4600 حفرة فيما بين يونيو وديسمبر من عام 2022؛ وبالتالي، فبحلول 2021، لم يعد باستطاعة المعدنين الذين لم ينخرطوا في تعاونيات الولوج إلى حفرهم القديمة.

وتابعة المقالة مصرحة بأنه حتى في حالة عدم سد هذه الحفر، فلن يعد بإمكانهم استغلالها نظرا لوضعيتها الغير القانونية، مما قد يقودهم إلى التعرض للقمع من طرف الشرطة أو القوات المساعدة، مشيرة إلى تناقض ذلك مع الوضعية السابقة للمبادرة، بحيث كانت السلطات تغض البصر عن التعدين بالرغم من عدم قانونيته؛ فبالرغم من عدم شرعية تعدين وإنتاج الفحم آنذاك، فقد كان تتجيره وتسويقه مرخص له.

إلا أنه كما سنوضح أسفله، فقد شددت الدراسة على التفاوت في الأرباح الذي خلقته تلك الوضعية السابقة من حيث احتكار التجار الكبار واستفادتهم من الصناعة، إلى جانب مؤجري المعدات، وذلك في مقابل تهميش العمال الذين اشتغلوا دائما في ظروف خطرة وأقل ربحا بكثير، مشيرة إلى المفارقة الجلية في تمثيل مبادرة إضفاء الطابع الرسمي للتعدين على أساس أنها آلية لتعزيز أمن واستقرار المعدنين، إلا أنها "أصبحت مساهما أساسيا في آلية قمعهم".

التأمين

في إشارتها إلى الخطورة التي تحملها هذه المهنة للحرفيين الصغار، زيادة على حساسية موضوع الأمن لدى سكان المنطقة، وهو ما يتجلى في تسبب الحوادث التي وقعت خلال فترة التعدين الغير القانوني، إضافة إلى أسباب أخرى، لاندلاع "حراك جرادة"، استحضرت الدراسة الاصطدام بين وجهتي نظر حول دور الدولة في منطقة جرادة والذي أضافت إمكانية ملاحظته في مناطق أخرى بالمملكة:

 بحيث ترى السلطات المحلية من جهتها بأن الدولة لها دور بنائي يقتصر على توفير البنى التحتية والحرص على صيرورتها وجودتها، وهو ما "يضعها في منطق خرجاني وعقلني، أو رسمي، مما يساهم في واقع الأمر في خلق مسافة بينها وبين السكان الأكثر هشاشة".

 في حين يرى المعدنون بأن الدولة لها واجب أكثر رعيا و"أقرب إلى تصور دولة الرفاهة المُتجذر في ذاكرة شركة Les carbonnages du Maroc" المؤممة – والتي تم إغلاقها كليا في 2001 بدون إخراج أية خطة واقعية للتحويل الاقتصادي الاجتماعي، بحيث يتوجب على الدولة أن "تعتني برعيتها الأكثر هشاشة وتوفيرهم ببدائل عملية لتُصلح بذلك أشكال عدم المساواة الاجتماعية عن طريق إعادة توزيع ثرواتها بشكل أكثر إنصافا (وهو التعريف الأساسي لدولة الرفاهة)، كما ترجع عملية إنتاج هذه الثروات إلى المناطق المهمشة".

فابتدأ تعزيز هذا التناقض، حسب الدراسة، أثناء أول تقديم للإعانات  الطارئة، بحيث صرح بعض المعدنين بأنه لم يستفد منها سوى 4 تعاونيات، والتي "تشكلت غالبا من عمال غير مقيمين بجرادة، وأحيانا من المقربين إلى موظفي السلطات المحلية".

فضلا عن ذلك، أشار البحث إلى أسعار التأمين المرتفعة، بحيث بلغت تكلفتها 44.000 درهم لكل 5 أسخاص (وهو الحد الأدنى لإنشاء تعاونية واحدة)، وذلك في سياق إنفاق أسبوعي يتراوح بين 200 و250 درهم، زيادة على "رفض شركات التأمين لتغطية المعدنين الذين اشتغلوا بداخل الحفر – أي الأكثر عرضة للخطر، أو قبولها لتأمينهم بمقابل أسعار باهظة".

وعبر المعدنون لأنا ديسيرتين عن استيائهم من الوضع واعتبارهم للتعاونيات كوسيلة تُمكن الدولة من التهرب من مسؤولية تأمينهم أكثر من كونها وسيلة لضمان استقرارهم، بحيث قامت بنقل مسؤولية التعامل مع المخاطر التي يتعرض لها العمال إلى المعدنين ذاتهم.

 فأفاد أحدهم في هذا الصدد: "دائما ما شكلت الانهيارات والإصابات مشكلة للدولة، أما الآن، فكلما يحدث مشكل يمكنها القول بأن الشخص المصاب هو منخرط في تعاونية لها تأمينها الخاص؛ أما إذا كان غير منتمي لأية تعاونية، فتقول بأن ذلك خطؤه ومن المفروض أن يكون منخرطا بتعاونية ما. أي إذا وقع لك مشكل، فأنت هو السبب وليس الدولة، فلم تعد لها أية مسؤولية".

إلا أن هذه الأخيرة غيرت إستراتيجيتها ووفرت 7 مليون درهم لشراء المعدات، كما تفاوضت مع شركات التأمين لجعل المساهمات متاحة بشكل أوسع. إلا أن المقالة أفادت بأن هذه الوضعية الجديدة "قامت بتوطيد شعور عدم تلاؤم هذه الآلية مع الوضع المحلي"، فبينما توفر الدولة المعدات، ينتظر المعدنون إمكانية إنشاء الرأسمال الجاري، والتي تتجلى فوق كل شيء في الدعم المالي، مستحضرة عائق آخر يتمثل في الولوج الإداري المحدود إلى هذه الآليات، إما بسبب ضيق الوقت أو نتيجة الطبيعة المرهقة لهذه الإجراءات.

التركيز التجاري

باشرت السلطات بتنفيذ هذه المبادرة وفق رؤية قدمتها شركة استشارية بطلب من وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة عبر المكتب الوطني للهيدروكربورات والمعادن، بحيث كانت تتمثل مهتمها بين 2019 و2021 في مرافقة الراغبين في إنشاء تعاونيات، وهي الخطوة الأول من نوعها في المغرب، في إطار رؤية لا تنحصر في مجال التعدين، بحيث تناغمت هذه المهمة مع أعمال المخطط التنموي الشمولي لإقليم جرادة المرتبطة بالتحويل والتنويع الاجتماعي الاقتصادي.

فقامت السلطات بتبني رؤية سعت إلى إدراج التعاونيات ضمن مسار قانوني اقتصادي هرمي عبر تأسيس شركة إدارية لتتكلف بتدبير التتجير والإعانات الحكومية زيادة على أصول أخرى.

وقد تم تبني هذه الرؤية الهرمية، دائما وفق الدراسة ذاتها، بعد الرفض لرؤية مغايرة تمت بلورتها من طرف نفس المكتب الاستشاري، والذي يتواجد مقره بالدار البيضاء، والتي سعت إلى الموافقة بين عمليتي إنتاج الفحم وتسويقه عن طريق ضم التعاونيات إلى نقابات، لتُشكل هذه الأخيرة تكتلا اقتصاديا يخدم مصلحة التعاونيات عن طريق إشرافها على عملية تسويق الفحم.

ووضحت المقالة بأن هذه الرؤية المتخلى عنها سعت إلى إنشاء النقابات لتحل هذه الأخيرة محل السلسلة التجارية الاحتكارية التي ظهرت مع تصاعد وتيرة التعدين الغير المقنن للفحم خلال تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري، بحيث  استغل حاملي رخص نقل وتتجير الفحم آنذاك الوضعية الغير القانونية لإنتاج المادة – التي تزامنت مع  شرعية نقلها وتتجيرها – لتجميع الأرباح وبالتالي "إقصاء المنتجين"، مشيرة كذلك إلى استفادة مؤجري معدات التعدين من الوضعية الغير القانونية للنشاط، والذين معظمهم كانوا ينتمون إلى مهن أخرى مثل الوظائف التنفيذية والحكومية.

زيادة على ذلك، أشارت الوثيقة إلى فارق الأرباح الواسع الذي كان يتواجد بين المعدنين والمتاجرين الكبار، بحيث كان المعدنون الحرفيون المنتمون إلى مجموعات لا تتعدى 3 أشخاص يستخرجون، باستعمال المطرقة والإزميل، ما بين 5 و10 أكياس من الفحم ويبيعون الكيس الواحد بما يتراوح بين 90 و120 درهم، حسب موقع التعدين وجودة المادة؛ وأما إذا كانت المجموعة (شبه) مُمَكْنَنَة، فيشتغل العمال بأدوات أكثر تطورا، كالثقابة الضغطية والآلة الرافعة، التي  يوفرها صاحب الحفرة ("مول الحاسي") إما عن طريق الامتلاك أو الإيجار، ليستخرجوا بذلك 40 كيسا في اليوم من الحفر الأكثر ربحا، والتي يبيعها "مول الحاسي" كل أسبوع ويدفع للعمال الذين يشتغلون داخل الحفر والأكثر عرضة للخطر ما بين 250 و350 درهم، أما من يقوموا بتشغيل الرافعة وتصفية الفحم خارج الحفرة، فيتراوح راتبهم ما بين 100 و150 درهم، مع العلم بأن العمل لم يكن مضمونا كل يوم، نظرا للتعطل المتكرر للمعدات، مما كان يسبب توقف العمل لأيام عدة؛ وذلك في حين أن محتكري التجارة الكبار، الذين لم يواجهوا أي من هذه الظروف الصعبة والمخاطر التي تحملها، فكانت لهم القدرة على تحقيق هامش من الربح يساوي 100 درهم للكيس الواحد، وهو ما "أدى إلى شعور متزايد بالظلم الإجتماعي".

وبالتالي، شددت الدراسة بأن هذه المبادرة، من خلال عدم تبنيها للرؤية التي سعت إلى الحد من هذا "الظلم الإجتماعي" عن طريق تخصيص التتجير للنقابات لصالح خطة إنشاء شركة إدارية، قد قامت منذ نشأتها بتكريس عدم المساواة وإقصاء المعدنين بخلق تعاونيات "تقوم بنوع من التلميع الهرمي والاضطهادي من خلال الإخفاء والتهميش التدريجي لطبقات مختلفة من اللاعبين في المجال".

واستنتجت الدراسة بأن هذا التطبيق لمبادرة إضفاء الصفة الرسمية للتعدين بجرادة، والتي أتت كردة فعل طارئة لحراك المدينة، بالرغم من اعتمادها على التعاونيات، والتي تشكل وسيلة "رمزية" نظرا لتمثيلها "للتصور الديمقراطي والاشتراكي"، فقد انحاز (التطبيق) نحو اتجاه الخصخصة والإدراجه للنشاط في "منطق نيوليبرالي ومعولم، سواء على مستوى شكله النهائي (والذي يتجلى في شركة التعدين) أو على مستوى مساره التأميني".

تاريخ الخبر: 2023-03-16 12:24:03
المصدر: تيل كيل عربي - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية