فى المقال السابق تم تناول مفهوم الزواج من المنظورين الدينى والقانونى، وخلصنا إلى أن تعريفات الزواج متعددة، و هذه التعددية أدت إلى غياب تعريف محدد للزواج فى قوانين الأحوال الشخصية. ولكن المسألة المحورية فى هى كونه قائم على صيغة تعاقدية والتى تشكل جوهر اتمام الزواج فى الحضارات المختلفة، فالزواج يُعرف بشروطه وصيغه التعاقدية وفق ماهو متوافق عليه فى سياق اجتماعى أو دينى معين. ولكن الزواج وما يترتب عليه من تكون أسرة وتشابك العلاقات العائلية والأسرية يعد ركنا محوريا فى النظم الاجتماعية، وتختلف النظرة للزواج وفق الاتجاهات الفكرية المختلفة، مثل المنظور الوظيفى الذى ينظر إلى الزواج إنطلاقا من وظائفه الإنجابية والاقتصادية والاجتماعية، والمنظور الماركسى الذى ينظر إلى التنظيم الزواجى بوصفه ركيزة من ركائز النظام الاقتصادى الرأسمالى، والنظرة النسوية التى تنتقد النظم الاجتماعية الأبوية ومنها الطابع الأبوى للتنظيم الزواجى والأسرى.

ومن المنظور الاجتماعى، ثمة تعريفات متعددة للزواج ولكن مجملها يرتكز على وصف طبيعة العلاقة من حيث كونها علاقة بين رجل وإمرأة، تحظى باعتراف اجتماعى، وذات طابع مستمر بما أن الغرض منها تكوين أسرة والإنجاب والحفاظ على النوع. وكما يقول دكتور محمد عاطف غيث فى قاموس علم الاجتماع: “.. تكاد تكون العلاقة الثابتة هى أهم ما يميز الزواج فى مختلف الثقافات، طالما أن الزواج لا يتساوى فى امتداده مع الحياة الجنسية..” وفى مجال الفولكلور نجد تعريفا ووصفا للزواج عبر التاريخ والثقافات، فوفق لمعجم الفولكلور للدكتور عبد الحميد يونس، فإن الزواج هو “اتحاد الرجل والمرأة اتحادا يعترف به المجتمع بواسطة إقامة حفل خاص. والزواج أولا وقبل كل شئ علاقة جنسية منظمة، ثم هو بعد ذلك منشأة اقتصادية تؤثر فى أحوال كثيرة على الحقوق الأساسية للأشخاص الذين يتصلون به”. أما عن تنظيمه فيقول: “وينظم المجتمع الزواج بطرق عدة؛ أولاها تُقرر القواعد التى تتصل باختيار الشريك، وتُحرم بعض الشرائع قيام صلة زواج بين الرجل والمرأة لأسباب عديدة؛ منها صلة القرابة، أو اختلاف الدين، أو عدم التكافوء بين الرجل والمرأة..”

ومن المنظور الأنثروبولوجى، ووفق أحد التعريفات [معجم مصطلحاتالأنثروبولوجيا: مجمع اللغة العربية] فإن الزواج، إلى جانب كونه رابطة بين رجل وإمرأة وفق قواعد اجتماعية مستقر، تقتضى الاعتراف بذريتهما نسلا شرعيا لكل منهما، فهو يعنى كذلك خلق علاقات مصاهرة بين أقربائهما فى المجتمعات التى يرتكز بناؤها الاجتماعى على القرابة والقبلية.. إذ أن الزواج ليس مجرد علاقة بين فردين بل هو علاقة بين جماعتين.. والزواج كنظام اجتماعى يأخذ أشكالا متعددة فى الثقافات المختلفة، فقد يكون أحاديا، أو متعدد الأزواج أو متعدد الزوجات، وقد يكون من داخل الجماعية أو خارجها.

وثمة بعد آخر للتنظيم الزواجى تجدر الإشارة إليه، وهو البعد الثقافى، فإذا كان الهدف الرئيس للزواج هو الحفاظ على النوع بالمعنى البيولوجى والاجتماعى، فإنه كذلك أحد الأدوات الأساسية للحفاظ على الهوية بالمعنى الثقافى والسياسى. فمن شروط ومحددات الزواج ما يستهدف الحفاظ على هوية الجماعة سواء كانت جماعية دينية أو قرابية أو حتى عرقية، وهكذا تنتشر القيود التى تفرضها بعض الديانات والثقافات على الزواج من ديانة أخرى أو حتى الزواج من أجنبى أو أجنبية، وكذلك دور التنظيم الزواجى فى الحفاظ علىالهوية الطبقية أو العائلية أو العرقية. وعادة ما يترتب على الإخلال بهذه الشروط عقوبات مادية او رمزية ومن ذلك الوصم والاقصاء كما هو الحال فى معظم الثقافات والمجتمعات التقليدية. وهناك تداخل أحيانا بين الهوية والمصلحة، عندما يكون الهدف من الزواج تحقيق مصلحة اقتصادية مثل الاستخواذ على الأرض والميراث أو النظر للزواج بوصفه نوعا من الترقى الاجتماعى.

وهكذا فمن المنظور الاجتماعى، فإن الزواج مسألة تتجاوز حدود أطرافهالرئيسية (الزوج والزوجة) فهو منظومة علاقات، وبالتالى فإن العلوم الاجتماعية تعنى بالتنظيم الزواجى أكثر من الزواج كرابطة ضيقة، فالتنظيم الزواجىيتسع لمفاهيم الأسرة والقرابة، فضلا عن أنماط العلاقات الزواجية، وطقوس الزواج والعوامل التى تؤثر على التماسك الأسرى وتؤدى إلى ما يعرف بالتفكك الأسرى، وهذه الأبعاد تشكل مضمون “علم الاجتماعى الأسرى”.