دبلوماسية الطعام .. صنيع الموائد في تاريخ الدول | صحيفة الاقتصادية


تحول الطعام، مع تطور الحياة البشرية، من مجرد حاجة فطرية، يعمل الإنسان باستمرار على إشباعها، استجابة لغريزة البقاء، إلى القيام بأدوار أساسية في العلاقات بين الشعوب والأمم، جعل مائدة الطعام تحظى بدور ريادي في العلاقات العامة بين الدول، وإحدى صور الدبلوماسية الناعمة، التي أفلحت في إثبات جدواها وفاعليتها على الصعيد الدولي، في أكثر من واقعة وحدث.
اعتبر الطعام عبر التاريخ مرآة عاكسة لدرجة الرقي والتحضر، فالروايات تفيد بأن التفنن في الطهي والأطعمة كان دوما مدعاة للفخر والاعتزاز لدى معظم الحضارات. فالعرب مثلا، تحديدا الأمويين والعباسيين، كانوا حريصين أشد الحرص على الإبداع في المآدب، تأكيدا لخصلة الجود والكرم ومظاهر الترف، لدرجة تحول معها هذا التقليد إلى قاعدة ثابتة في قواعد البروتوكول الدبلوماسي الذي يناله ضيوف الأمراء والسلاطين.
تدريجيا، أضحت المائدة ضابطا تقاس بواسطته العلاقات الدبلوماسية بين الدول، فسير الملوك والخلفاء عامرة بالقصص عن صنيع الموائد في تاريخ الدول، ففي الطقوس الاحتفالية بالأكل والموائد الأسطورية في حضرة الضيوف أكثر من رسالة عن مكانة هذه الدولة لدى الدولة المضيفة. تقليد دبلوماسي قديم رافق الإنسانية عبر التاريخ، فتنظيم مأدبة طعام رسمية على شرف الضيف "ممثل الدولة" يوحي بالطابع الاستثنائي في العلاقات بين الدولتين.
حقيقة تاريخية أخذت بها هيلاري كلينتون، حين تولت حقيبة وزارة الخارجية الأمريكية، فقد كانت تجعل الطعام -بحسب كابريسا مارشال رئيسة الطباخين في وزارة الخارجية- أداة من أدوات التأثير الدبلوماسي الناعم. وذلك ليس بغريب في سياسة سيدة عملت على توظيف المطبخ الأمريكي، لإصلاح صورة الولايات المتحدة الأمريكية لدى بقية شعوب العالم، فهي تعد "الطعام أقدم أشكال الممارسة الدبلوماسية".
يجمع المؤرخون على أن اقتران الدبلوماسية بالطعام، في العصر الحديث، ابتكار فرنسي أصيل، أقدم عليه واحد من أشهر رجال الدولة في فرنسا خلال القرن الـ19، يدعى شارل موريس تاليران، الذي اهتدى إلى ما اصطلح عليه "دبلوماسية القدر"، عند توليه وزارة الخارجية الفرنسية، إبان أشغال مؤتمر فيينا "1814 - 1815"، حيث أعيد رسم الخريطة السياسية لأوروبا بعد هزيمة فرنسا. موقف الرجل باعتباره ممثلا للدولة المنهزمة، دفعه إلى خوض معركة دبلوماسية بالأواني ووصفات المطبخ الفرنسي، بعيدا عن نتائج المعارك على أرض الواقع.
لا تزال ذاكرة الفرنسيين تستعيد، في لحظات فشل الدبلوماسية الفرنسية، رد شارل موريس الشهير على الملك لويس الثامن عشر، وهو يتلو على أسماعه قائمة وصايا الدولة الفرنسية للمشاركة في المؤتمر، حين قال "سيدي، أنا بحاجة إلى القدور والمقالي أكثر من حاجتي إلى التعليمات المكتوبة". رد طبيعي من سياسي بارع، نجح بمساعدة ماري أنتوني كاريم الطباخ الفرنسي الشهير في إثبات أن "أفضل مساعد للدبلوماسي هو طباخه"، وذلك بفضل ولائم الطعام التي أبهرت سفراء الدول الأوروبية المشاركين في المؤتمر.
غير ما مرة، تنجح الموائد والمآدب في إنجاز ما عجزت عنه الطاولات واللقاءات. فقبل أعوام، تحديدا عام 2015، وخلال مسلسل تفاوض شاق وعسير دام زهاء عام ونصف، على البرنامج النووي الإيراني بين الأمريكيين والإيرانيين، أفلح الوفد الإيراني في إنقاذ الاتفاق من فشل وشيك، عقب دعوتهم ممثلي الدول الغربية إلى مشاركتهم الطعام، وتجاذب أطراف الحديث بعيدا عن السياسة. مثل ذلك خطوة كبيرة في الطريق نحو التوقيع على الاتفاق، إذ أتاحت -كما جاء على لسان عضو في فريق المفاوضات- فرصة لرؤية الأخرين بشكل مختلف، بعدما كانوا مجرد مفاوضين.
يحضر الطعام حتى في الشؤون الداخلية للدول، ولا سيما بعد تحوله من نطاق العلنية في الماضي إلى دوائر السرية في الحاضر، وذلك راجع إلى التزام ثلة من الزعماء السياسيين بضوابط البروتوكول الصحي، أو خوفا من القتل عن طريق تسميم الطعام، كما يشاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكثر القادة تحفظا حول العادات الغذائية، لدرجة أنه وظف شخصا لتذوق جميع أطباقه.
يبقى الفرنسيون أكثر الشعوب اهتماما بالعلاقة بين الطعام والسياسة، لدرجة أن جيل براجارد، رئيس نادي الطهاة في فرنسا، علق في معرض رده على سؤال حول عادات رؤساء فرنسا الغذائية، "في دوائر القوة، يعد الطعام موضوعا حساسا للغاية". تحفظات لن تحول دون معرفة العوام بالأطباق المفضلة لدى المتعاقبين على قصر الإيليزيه، فالجنرال شارل ديجول محب للبازلاء، أما الاشتراكي فرانسوا ميتران فيعشق الكافيار، في تناقض صارخ مع أيديولوجيته السياسية، ما وضعه في مرمي نيران المعارضة التي أطلقت عليه وصف "يسار الكافيار".
كاد الطعام أن يسبب أزمة للرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، عند قيامه بحظر نبتة "البروكلي" من الوجبات المقدمة للرئيس في البيت الأبيض أو أثناء سفره، وحتى في أطعمة الجيش الأمريكي، نظرا لعقدة طفولية له مع البروكلي في الصغر، "أنا لا أحب البروكلي، لم يعجبني أبدا عندما كنت طفلا وأطعمتني إياه أمي، أنا رئيس الولايات المتحدة ولن آكل البروكلي بعد الآن". قرار دفع المزارعين إلى إرسال أطنان من البروكلي إلى البيت الأبيض، احتجاجا على قرار الرئيس، الشيء الذي فرض عليه التراجع.
إذا كان كلود ليفي شتراوس عالم الاجتماع يرى أن تطور المائدة يصلح تفسيرا لتطور العلاقات البشرية، معتبرا لحظة الالتئام نقطة فاصلة بين الحرب والسلام، فخبراء الدبلوماسية يعدون "فن الطهي وسيلة لتحسين التفاوض، وتوفير جو من الاسترخاء، إن لم يكن من الفكاهة حول المناقشات الشاقة أو المتوترة"، فهذه الدبلوماسية الناعمة تقوم على التأثير والإغراء، ما يرفع فرص نجاح عملية التواصل بين الأطراف.

تاريخ الخبر: 2023-03-22 21:23:11
المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية
التصنيف: إقتصاد
مستوى الصحة: 40%
الأهمية: 44%

آخر الأخبار حول العالم

هل يعيد الحوثي اليمن إلى مربع الحرب ؟ - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-17 03:23:57
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

ملاحقة خطابات الكراهية والشر - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-17 03:23:55
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 66%

أكادير.. افتتاح الدورة الخامسة لأيام الأبواب المفتوحة للأمن الوطني

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-17 03:25:06
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 68%

أبناء جنوب لبنان: لا نريد الحرب.. «حزب الله» ورّطنا - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-17 03:23:58
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 65%

السعودية والأمريكية - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-17 03:23:59
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية