كان الشاب الأربعينى سيد محمد نجم يعدل عمامته الأزهرية ويتقنها على رأسه، وتلتف حوله بشكل دائرى مجموعة من طلابه ممن اقترب موعد إجازتهم لحفظ وترتيل القرآن الكريم على يديه، داخل مسجد «الليث بن سعد»، فى قرية «قلقشندة» فى مدينة طوخ، بمحافظة القليوبية.

حينها سأله أحد تلاميذه عن الإمام الليث بن سعد، الذى يتصدر اسمه المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعى حاليًا، بعدما تناولت حلقات مسلسل «رسالة الإمام»، بطولة الفنان خالد النبوى، مشاهد درامية كثيرة ظهر فيها حب «الشافعى» لـ«الإمام الليث»، وكذلك مظاهر حب المصريين له ومدى حزنهم على رحيله وإرثه المفقود.

فى تلك الأثناء، كانت «الدستور» تتوجه إلى قرية «قلقشندة»، أو «قرقشندة» كما ينطقها أهلها، حيث مسقط رأس الإمام الليث بن سعد، التى وُلد فيها عام «٩٤ هـجريًا- ٧١٣ ميلاديًا»، وعُرف بأنه «المجهول الأفقه من الإمام مالك»، خاصة أنه كان فقيهًا ومحدثًا وإمام أهل مصر فى زمانه، وصاحب واحد من المذاهب الإسلامية المندثرة، فى محاولة للبحث عن حكايات الأجداد للأحفاد عما تبقى من إرث «الإمام الليث»، وتاريخ وجوده فى قريتهم منذ قديم الأزل، والمقولات والقصص التراثية الشعبية المتواترة بين الصغار والكبار هناك عن هذا الإمام وتلك المسيرة.

لم تصح عليه زكاة بسبب كرمه.. ويقول للسائل: «خد من الطاقة»

على جانبى طريق ضيق شبه ممهد بالأسفلت يلاصقه مصرف قديم يشق مساحات شاسعة من زراعات القمح وحدائق الفاكهة، كانت الأصوات هادئة إلا من أصوات العربات التى ينقل فلاحو قرية «قلقشندة» أعمالهم عليها، ويربطون فيها دوابهم وحيواناتهم، وتسير جنبًا إلى جنب مع السيارات الحديثة.

حينها طلّت مئذنة مسجد كبير وسط القرية، يجاوره معهد دينى ودار للمناسبات، لم يكن ذلك سوى «مجمع الليث بن سعد الإسلامى»، الذى يعود تاريخه لأكثر من نحو ١٥٠ عامًا، علمًا بأنه تم تطويره عام ١٩٨٣ بمشاركة أهل الخير.

وقال الشيخ سيد محمد نجم، وهو إمام وخطيب فى وزارة الأوقاف، إنه واحد من أبناء القرية ممن درسوا العلوم الدينية والشرعية، وحملوا على عاتقهم البحث عن الإرث العلمى والفقهى للإمام الليث بن سعد، بما أنه ابن قريته و«أولى بعلمه».

وأضاف «نجم»: «قرأت كل ما كُتب ودُوّن عن الإمام الليث، سواء للمفكر والأديب عبدالرحمن الشرقاوى، أو للإمام عبدالحليم محمود، أو للإمام مصطفى عبدالرازق، بجانب كل الموسوعات الفقهية التى ذكرته»، وذلك فى محاولة منه لإعادة إحياء فقه الإمام الليث للأجيال الجديدة من أطفال وشباب القرية، ممن يحفظون القرآن على يديه.

وواصل: «لم أكن لأترك هذا العلم والفقه يندثر ويتفرق أبدًا»، مشيرًا إلى أنه يأسف هو وأهالى قريته من عدم احتلال الإمام الليث مكانته بين الأئمة الأربعة، ليكونوا «الأئمة الخمسة»، وذلك بسبب فقد تراث الإمام الليث، على الرغم من أنه كان يقال عنه إنه «مفتى الديار المصرية»، وكان يفضله الإمام الشافعى لدرجة أنه قال عنه: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به».

وتدخل سيد غريب، من أبناء قلقشندة، فى الحديث الدائر قائلًا إنه وأبناء جيله ممن وصلوا إلى سن كبيرة يتداولون منذ النشأة حكايات وسيرة الإمام الليث بن سعد، ووجوده فى قريتهم، التى كان بها قبائل بدو مثل قبيلة «صهيب» التى ينتمى إليها الإمام.

وأضاف: «نسمع دائمًا أن الليث كان ثريًا وكريمًا ومضيافًا، فى ظل امتلاكه العديد من الأراضى التى كانت تسمى بـ(تارة الليث) فى الجيزة والقليوبية، حتى إنه مما وصلنا أنه (لم تصح عليه زكاة قط)، لأنه كان يتصدق بكل ما لديه، فلا يصل أبدًا إلى المرحلة التى توجِب الزكاة».

وأكد العديد من أهالى القرية ما ذكره «غريب»، وقالوا إن الإمام الليث كان ذا كرم كبير، ومشهور عنه مقولة «خد من الطاقة وحط فى الطاقة».

و«الطاقة» لدى الفلاحين هى حفرة فى الحوائط القديمة المبنية بالطوب اللبن، كانوا يحفظون فيها أموالهم وأطعمتهم وكل ما هو ثمين لعلوها عن الأرض.

وأوضح الأهالى أن أجدادهم يقولون إن كرم الإمام الليث تجسد فى هذه المقولة، فكل من كان يقصد منزله فى القرية سائلًا عن مبلغ مالى، يجيبه بهذه المقولة: ««خد من الطاقة وحط فى الطاقة»، أى خُذ من «الطاقة» ما تريد، وحينما يتوافر لديك المال ضعه كما كان.

وأشاروا إلى رواية متواترة فى هذا الشأن لا يزالون يتناقلونها حتى الآن، وهى أن أحد الأهالى ذهب إلى الإمام الليث طالبًا مالًا فقال له كعادته: «خذ من الطاقة....»، فلما ذهب الرجل لم يجد مالًا فعاد إلى الإمام وأخبره بذلك، فنظر إليه الإمام وقال له: «لو كنت سددت ما أخذته من قبل، لكنت وجدت الآن ما تحتاج».

وأعرب الأهالى عن سعادتهم بمسلسل «رسالة الإمام» إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، الذى أعاد اسم الإمام الليث إلى الصدارة مع الإمام الشافعى، بعدما نسيه الجميع، مشيرين إلى أنهم يجلسون أمام التليفزيون كل ليلة للاستمتاع بالمسلسل.

جمع علمه من ١٥٠ تابعًا.. ومتعصبون من تلاميذ الإمام مالك أغرقوا كل مؤلفاته

قال أهالى آخرون، التقتهم «الدستور»، إنهم لا يزالون يتوارثون الكرم عن الإمام الليث، فيقيمون موائد الرحمن لإطعام المارة والفقراء بشكل دائم، كما أنهم يستقبلون الأغراب ممن يبحثون عن سكن فى القرية.

وكشف الأهالى عن أن الكثير من علماء الأزهر والشيوخ المحدثين يزورون قريتهم كثيرًا، نظرًا لوجود نحو ١٠ من علماء الأزهر والأولياء الصالحين خرجوا منها، مثل الشيخ سلامة أبوالمجد، الذى كان يجمع بين المذهبين الشافعى والمالكى، ويُدرّس لطلاب الأزهر الشريف.

وقال أنور ناجى، نجار فى القرية، إنه شب على قصة متواترة عن الإمام الليث بن سعد، أثبت صحتها عدد من العلماء، وهى أن امرأة طلبت منه رطلًا من عسل لتعالج ابنها المريض، فى وقت شح فيه العسل، فأمر «الليث» ابنه بأن يعطيها مرطًا من عسل «نحو ١٢٠ رطلًا»، فقال تلاميذه: «سألتك رطلًا أتعطيها مرطًا؟»، فقال لهم: «سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا».

وأضاف «ناجى»: «هذه القصة لا يوجد طفل أو شاب أو عجوز فى القرية إلا ويعرفها ويتناقلها عن الإمام الليث»، معتبرًا أن «كل هذا الكرم من الإمام الليث يؤكد أنه كان مستغنيًا عن مال الدنيا لصالح الفقراء من أهل قريته والغرباء».

وعلى باب المعهد الدينى الذى سمى أيضًا باسم الإمام الليث بن سعد فى القرية، التقت «الدستور» طالب الإعدادية الأزهرية ياسين محمد، الذى قال إن أساتذته حكوا له رواية لم يتمكن من التحقق منها- رغم أن الروايات التاريخية ذكرت أن والى مصر هو من أمر بهدم منزل الإمام الليث فى قريته «قلقشندة» ثلاث مرات- وهى أن الإمام الليث بن سعد غضب من أهالى «قلقشندة»، مضيفًا: «هذا الغضب جاء لأن ابن عم الإمام، الذى كان مقيمًا معه فى قلقشندة، كان على خلاف معه، وبعثر أوراقه وكتبه فى نهر النيل، لدرجة أن ماء النيل بات لونه بلون الحبر».

وواصل: «انتقل الإمام بسبب ذلك إلى الفسطاط، فذهب خلفه جمع من أهالى القرية لمصالحته عما بدر منهم ومن ابن عمه الحاقد عليه، وعندما سألهم عن قريتهم، بدلًا من أن يقولوا إنهم من (قلقشندة)، قالوا إنهم من قرية (إمياى)، فدعا لهم بطول العمر والصحة وصلاح الحال».

وأكمل أحد رجال القرية حديث الطالب الأزهرى، قائلًا إن «هذه الدعوة لا تزال متحققة حتى الآن، فأهالى قرية (إمياى) المجاورة لنا يتمتعون بطول العمر وامتداده إلى الثمانين، ودوام الصحة أيضًا».

وأضاف أن هناك دعوة أخرى متواترة كذلك عن الإمام الليث، دعا بها على من أخرجوه من قريته «قلقشندة»، وقال فيها: «تروحوا متجمعين وترجعوا متفرقين».

وأفاد بأن الإمام الليث ظل يسكن قريتهم حتى أتم ٢٠ سنة، ثم خرج إلى الفسطاط والسعودية لجمع علوم الفقه من نحو ١٥٠ تابعًا. 

التقينا بعدها مدحت عاشور، حفيد أحد «الأولياء الصالحين» فى القرية، وهو الشيخ إدريس المغراوى.

وكشف «عاشور» عن رواية أخرى تؤكد أن الإمام الليث بن سعد كتب مؤلفاته، وكان يحتفظ بها داخل إحدى السفن، لأنه كان دائم السفر من الإسكندرية إلى الفسطاط، لكن المتعصبين من تلاميذ الإمام مالك أغرقوا السفينة بكل ما تحمله من كتب «الليث»، الذى جمع علمه وفقهه والأحاديث بعدما أدرك نحو ١٥٠ من التابعين.

وأضاف: «الإمام الليث كانت له صلات طيبة بالخلفاء، ورغم ذلك سمعوا أنه رفض منصب (والى مصر)، بعدما عرضه عليه الخليفة المنصور».

وبشأن منهجه الفقهى، قال الشيخ سيد نجم، وعدد من سكان القرية، إن هذا المنهج يتميز بأنه كان يتتبع الأثر من كتاب وسنة وإجماع، وهو ما دفع الإمام الشافعى إلى أن يقول: «الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس».

وفى نهاية حديثهم مع «الدستور»، قال الأهالى إنهم كانوا يأملوا فى أن يُدفن الإمام الليث بن سعد فى القرية مسقط رأسه لتشريفها، لكنه توفى فى الفسطاط ودفن فى منطقة «الأباجية» سنة ١٧٥ هـ، مشيرين إلى أنهم سمعوا أن جنازته كانت عظيمة، وأنهم من وقت لآخر يزورون قبره ومسجده، حيث دفن ومعه ابنه «شعيب».