محمد الباز يكتب: نصر أبوزيد.. طفل يصاحب القرآن وتعانده أقداره

- أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا بـ«كُتاب الشيخ المنيسى» وهو فى سن الثامنة

- كان يصلى ويصوم كثيرًا ويقرأ القرآن ليس للدراسة فقط ولكن لأنه يرتاح لذلك

مزارع بسيط اسمه حامد رزق أبوزيد، يمتلك قطعة أرض صغيرة فى قرية قحافة القريبة من مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وهو فى الثلاثين من عمره أصبح لا يقوى على زراعتها لاعتلال صحته، فقد ألمَّت به أوجاع القلب، يقرر أن يبيعها ويفتتح محل بقالة صغيرًا يعينه على المعيشة الصعبة. 

فى ١٠ يوليو ١٩٤٣ يستقبل ابنه نصر، يطلق هذا الاسم تحديدًا على ابنه تيمنًا بمن ينتصر فى الحرب العالمية الثانية، وكان الفريقان يستويان عنده، فلا فارق لديه بين المحور والحلفاء، فمن سينتصر سيكون انتصاره لنفسه، أما هو فقد سمى ابنه «نصر» سعيًا وراء انتصاره الشخصى. 

كان حامد رزق أبوزيد قصير القامة بدين الجسم، أدرك نصر مبكرًا أنه ورث بدانته المفرطة من والده، لكنه رضى بما قسمه الله له. 

لم يكن رزق يجيد القراءة والكتابة، لكنه كان يدرك أهمية التعليم فنذر أن يهب ابنه للأزهر. 

أمه هى السيدة «نعيمة محمد لبدة»، والدها كان مقرئ «قحافة» الرسمى، يستمد قيمته ومكانته من القرآن الكريم، وهو ما جعل نصر يميل إلى القرآن مبكرًا، فاستجاب لرغبة والده فى إلحاقه بكتّاب الشيخ «المنيسى»، ولم يكن غريبًا أن يستمع إلى دعوات أمه وهى تتمنى من الله أن يكون ابنها مثل الإمام محمد عبده الذى درس فى بداية حياته بالمعهد الأحمدى بطنطا، ولما كان المعهد قريبًا من قحافة، فقد تمنت الأم أن يكون الحلم هو الآخر قريبًا. 

لم يكن نصر هو ابن أسرته الأول، كان ترتيبه الثالث، بعد شقيق مات طفلًا، وشقيقته «بدرية» التى أصبحت هى الكبرى والمقربة منه، وبسبب موت أخيه الأكبر تأخر والده فى تسجيله فى السجلات الرسمية خوفًا عليه هو الآخر من الموت، لكنه تحدى الحياة والموت معًا. 

فى كتاب الشيخ المنيسى جلس نصر ليتعلم الكتابة والقراءة والحساب، وفى سن الثامنة أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا. 

ظلت ذكرياته وهو يتفاعل مع آيات القرآن تصاحبه طوال حياته. 

كان يذهب إلى كتاب «المنيسى» مع طلوع الشمس ويظل هناك حتى المساء، يمسك بلوح الإردواز ويكتب عليه بالطباشير، فى فترة تعلمه القراءة كان يتطلع إلى اليوم الذى يبدأ فيه بحفظ القرآن. 

يقول نصر: بدأنا بتعلم جزء «عم»، نتعلم كتابة الآيات على اللوح، ويقرأها علينا الشيخ عدة مرات، ونذهب لحفظها حتى يأتى وقت التسميع، ينظر إلينا الشيخ المنيسى فلا يشاهدنا، ولكنه يرانا جيدًا. 

لم تكن رحلة نصر مع حفظ القرآن سهلة، عانى مثل ما عانى الحفظة الآخرون، ذاق عذاب عصا الشيخ كثيرًا، ولما كان يضيق بالعقاب، كانت أمه تهوّن عليه الأمر. 

يذكرنا بما جرى له: كان الشيخ يضعنى أمام كرسيه بين رجليه المدكوكتين، وبيده عصاه، وحينما تخطئ تأتيك لسعة- كلسعة دبور- خفيفة على رأسك، فعليك أن تعيد الآية، ولو أخطأت تأتيك لسعة أخرى، فتعيد ثانية، فيصحح لك الخطأ، وحينما أعود إلى أمى أشكو أحيانًا، فتقول لى: عَصاة الفقى من الجنة. 

لا تكتمل ختمة القرآن إلا بالاحتفال بها. 

قرر حامد أبوزيد أن يحتفل بصغيره الذى لم يحفظ القرآن فقط بل تفوق فيه، يصف نصر ما بقى فى ذاكرته من تفاصيل المشهد الفارق فى حياته: كان الاحتفال بمسجد القرية الكبير، ارتدى الشيخ المنيسى أجمل ثيابه، وفى حضور الناس وأمام أبى بدأ يمتحننى، فيذكر الآية وأكمل بعده، كان سعيدًا سعادة غامرة، وعلى الرغم من قلقى إلا أننى اجتزت الامتحان، وقبلت يد شيخى، ولأن أبى لم يكن من مزارعى القرية، فقد كانت هديته للشيخ المنيسى جبة وقفطانًا وعمة ومبلغًا من المال. 

بعد الاحتفال بالختمة، أصبح نصر أبوزيد عند كل أهالى قريته «الشيخ نصر»، وأصبح يؤذن للصلاة، ولم يكن غريبًا أن يطلب أهالى قحافة أن يكون إمامهم فى الصلاة. 

لم يكن نصر غريبًا عن القرآن، ولم يكن القرآن غريبًا عنه، إذن عندما قرر أن يكون موضوع دراسته بعد أن أصبح معيدًا فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة فى العام ١٩٧٢، كان يعرف طرقه وسهوله وهضابه وجباله ومساراته معرفة العارف بالبلد الذى ولد ونشأ وتربى فيه. 

فرحة نصر أبوزيد بحفظ القرآن والمكانة التى أصبح فيها، والتى لم يلاقها أحد من أقرانه، لم تكن فرحة خالصة، فقد صاحبت رحلة حفظه للقرآن أولى محطات الحرمان فى حياته. 

كان نصر طفلًا بدينًا، وهو ما حرمه أن يكون مثل أصدقائه وزملائه فى كتاب الشيخ المنيسى، فلم يكن قادرًا على مجاراتهم فى اللعب والقفز والتسلق فوق الأشجار وخوض مغامرات تحتاج إلى الخفة والرشاقة، وهو ما جعله يبتعد عنهم، ويتفرغ لحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة طوال الوقت. 

نجح نصر فى أن يحقق للآخرين ما أرادوه منه.. فحفظ القرآن وتميز على رفاقه. 

لكنه حرم من أن يحقق شيئًا أراده لنفسه كطفل.. فلم يلعب ولم يمارس شقاوته، وتخيل نفسك وأحلام الطفولة التى لم تحققها تطاردك طوال حياتك. 

لم يكن القرآن بين يدى نصر مادة دراسة جافة، ولكنه كان يلازمه منذ طفولته. 

المفاجأة التى لا يعرفها كثيرون أن نصر كان ملتزمًا أخلاقيًا ودينيًا وإنسانيًا طوال حياته. 

كانت رغبة والده أن يُلحقه بالأزهر، لكن الأقدار كان لها قول آخر، ففى عام ١٩٥١ ونصر ابن ثمانى سنوات يحمل على كتفيه القرآن كاملًا، تم افتتاح أول مدرسة حكومية فى «قحافة»، وقبل أن يحسم والده مصيره، اشتد عليه المرض.. عانده قلبه للدرجة التى أصبح فيها لا يقوى على الوقوف فى محل بقالته الصغير، وبدأت الحيرة تسيطر على الموقف. 

هل يدخل نصر الأزهر ويسير فى المشوار الطويل إلى آخره؟ 

أم يدخل المدرسة الحكومية ومشوارها أقصر وأقل تكلفة؟ 

وجد حامد أبوزيد صديقه الذى يعمل بالسكة الحديد يقول له: الأزهر حباله طويلة، سكن فى مصر ومصاريف وسنين، الأزهريون يتزوجون وينجبون وما زالوا طلبة، إحنا نقدم للأولاد فى التعليم الحكومى. 

كانت المدرسة الحكومية تقبل الأطفال من سن ست سنوات، ولأن نصر كان فى الثامنة من عمره، فلم يستطع الالتحاق بها، فبحث والده عن مدرسة خاصة، وهنا يأتى الوجع الثانى فى حياته، فقبل أن يذهب إلى مدرسة العبيدية الابتدائية بطنطا حصل والده على شهادة فقر، تشفع له عند صاحب المدرسة فيعفيه من المصاريف. 

رغم قسوة الإحساس بالفقر الشديد، وهو ما أورثه إحساسًا دفينًا بالحرمان، إلا أن تفوقه أنقذه وخفف عنه هذا الإحساس قليلًا، فقد استقبله ناظر المدرسة الأستاذ أسعد القبطى، وأجرى له اختبارًا، ولما وجد مستواه فى القراءة والكتابة جيدًا، قرر إعفاءه من نصف المصاريف، ولم يلتفت إلى شهادة الفقر التى وضعها والده فى جيبه ولم يخرجها بعد ذلك أيضًا. 

فى الثامنة وبينما يدرس نصر فى مدرسة العبيدية قرر أن يصوم، تداعبه ذكرياته عن أول سنة صيام فى حياته: أردت أن أبدأ الصيام، ولأن أسرتى لا توقظنى للسحور، ظللت مستيقظًا طوال الليل حتى السحور، وكان السحور كبدة، نمت واستيقظت متأخرًا على موعد المدرسة، وكان بابها مغلقًا، طرقت الباب فإذا بحضرة الناظر بنظرته المرعبة يستقبلنى قائلًا: ناموسيتك كحلى.. وكمان بتخبط على الباب؟ 

يرسم نصر بقية المشهد: كنت فى حالة ارتباك، غمغمت ببعض الكلمات، من ضمنها رمضان والصيام، فنظر لى وقال: وعلى كده إنت صايم؟ أجبته: نعم بكل قوة وعزم، فقال: طيب أرنى لسانك، ولما رآه قال: طيب ادخل ولا تتأخر مرة أخرى. 

تشبع نصر فى طفولته بالقرآن والصلاة والصيام.. وهو التشبع الذى كان رفيقه طوال حياته، فقد كان يحافظ على العبادات كلما أمكن له ذلك. 

عندما كنت فى كلية الإعلام- السنة الدراسية الأولى ١٩٩٣- استمعت من الدكتور سليمان العطار، الذى كان يدرس لنا مادة الأدب العربى قوله: بيقولوا على نصر أبوزيد ملحد.. بيقولوا عليه كافر.. ده نصر ده بيطرش إسلام. 

كان المعنى غريبًا، العطار يدافع عن صديقه نصر بعد أن تفجرت قضيته الشهيرة، ولما وجدنا مندهشين من تعبيره، قال: نصر أبوزيد يصلى ويصوم ويقرأ القرآن ربما أكثر مما يفعل من يطعنونه فى دينه. 

وعندما زرت بيته بعد وفاته، قلت للدكتورة ابتهال: سأسألك سؤالًا أرجو أن تجيبينى عليه. 

لم أمنحها فرصة للدهشة، قلت لها: هل كان الدكتور نصر يصلى ويصوم.. هل فكر فى أداء العمرة أو السفر إلى الحج؟ 

رفضت الدكتورة ابتهال الإجابة عن السؤال فى البداية، احترمت ما قالته من أن هذا أمر بين نصر وربه، وأننا لا يجب أن نتاجر بعبادتنا إذا كنا نريد أن يتقبلها الله منا. 

ألححت عليها، تحدثت بعد أن طلبت عدم النشر، لكنى الآن يمكن أن أفصح عن بعض ما قالته. 

قالت: نصر كان كأى مسلم تربى فى الريف، حفظ القرآن وتعود على الصلاة والصيام.. كان كثيرًا ما يصلى.. وكثيرًا ما يصوم.. وكان يقرأ القرآن دائمًا ليس للدراسة فقط، ولكنه كان يرتاح لذلك.. لكنه لم يدفع أمام الناس بذلك أبدًا حتى عندما اتهموه بالهرطقة والكفر. 

بعد الثورة قررت الحكومة تعديل نظام التعليم من ابتدائى وثانوى إلى ابتدائى وإعدادى وثانوى، وانتقل نصر إلى مدرسة التوفيقية الحكومية فى السنة الأولى الإعدادية. 

بعد أن حصل نصر على الشهادة الإعدادية كان حلمه أن يدخل المدرسة الثانوية خاصة أنه حصل على مجموع كبير، وهنا يقابلنا الحرمان الثالث فى حياته وهو لا يزال صبيًا صغيرًا. 

المشهد نسجه وأخرجه هو، يقول: دخلت على أبى فسألنى: إيه النتيجة؟ قلت: نجحت بمجموع كبير يدخلنى الثانوية العامة، نظر إلىّ وقال: جهز أوراقك لمدرسة الصنايع، قلت بصوت خافت دون أن أنظر إليه: أريد أن أدخل الثانوى العام، قال بحدة: لم يسألك أحد عن رأيك، يا مدرسة الصنايع أو تقف فى الدكان. 

رأى نصر أبوزيد حلمه يتبدد أمامه، فها هو فقر والده يقف حائلًا بينه وبين أن يعيش الحياة التى يريدها، ويحصل على التعليم الذى يستحقه، لكنه لم يستسلم، ذهب إلى عمه الكبير الذى كان يسكن فى كفر الزيات، أخبره بما قال والده، فعاد معه إلى القرية، وكان والده فى شدة الغضب. 

قال العم: مدرسة صنايع إيه يا حامد، الولد مجموعه كبير وله مستقبل فى الجامعة. 

فرد الأب: لو أنا مت هتصرف عليه؟ وإن صرفت عليه ودخل الجامعة هتصرف على أخواته. 

لم يجد نصر أمامه إلا الاستسلام فاستسلم. 

حمل أوراقه وذهب إلى مدرسة الصنايع ليدرس فى قسم اللاسلكى، ويتخرج بعد ذلك عاملًا وعمره لا يتجاوز السابعة عشرة. 

كان الحرمان هذه المرة كبيرًا، أثناء دراسته الإعدادية كان نصر قد عرف طريق القراءة والمعرفة، انضم إلى جماعة الخطابة، وفى مسابقة القراءة الصيفية بدأ يقرأ كتبًا غير الكتب المدرسية المقررة، قرأ رواية إسبانية بعنوان «دون كيشوت»، وقرأ «الجريمة والعقاب» لدوستوفيسكى، وقرأ كتب الإنجازات العلمية، وبدأ يتعرف على الأدب العربى فقرأ شعر الباردوى، وأمير الشعراء أحمد شوقى، وجاء على أشعار المتنبى وأحبها، وفى المسابقة فاز نصر ليحصل على مزيد من الكتب حتى أصبح له رفوف فى البيت يضع عليها كتبه. 

عندما دخل مدرسة الصنايع وجد عالمًا مختلفًا تمامًا، وكأنه سقط من السماء على الأرض مرة واحدة. 

يصف نصر أحواله: دخلت مدرسة الصنايع، كنت صغيرًا بين طلابها، يتبارون فى الإجرام والتمرد، فحاولت بقدر الإمكان أن أتكيف مع الوضع، وعندما أتانا ناظر شديد لمدرسة الصنايع، قرر أن يوقف الفوضى، ضرب بيد من حديد على التسيب فى المدرسة، كانت غرفة الطعام تخضع لقانون الغاب، الطلبة الأكبر سنًا والأقوى يدخلون أولًا ويأكلون الأكل كله، وباقى الطلبة لا يأخذون شيئًا، فجعل لكل طالب رقمًا وكوبونًا، كما أنه حسَّن فى الوجبة، وفى يوم من الأيام قفز بعض الطلبة من فوق سور المدرسة إلى مدرسة الثانوية خلفنا للهروب منها إلى الشارع كالعادة، وأمسك بهم ناظرها، واتصل بناظرنا، فقال لناظر مدرسة الثانوى العام: أنت أمسكت بمجرمين قفزوا عبر سور مدرستك، بلغ البوليس. 

كانت النقلة التى حدثت فى حياة نصر عنيفة، من طالب يقرأ الشعر ويكتبه، ويلتهم الروايات والقصص القصيرة ويجرب حظه فيها، إلى طالب يحاول أن يحمى نفسه من الانجراف إلى مسارات الإجرام والانحراف الذى كان سِمة مدرسة الصنايع. 

لكن قبل أن يبدأ نصر الدراسة فى مدرسة الصنايع مر بتجربة الفقد الكبرى فى حياته، وعمره أربعة عشر عامًا- العام ١٩٥٧- مات والده وهو فى الثالثة والأربعين من عمره، ليتركه مسئولًا عن أشقائه، ووقتها لم يجد أمامه إلا أن يتولى المسئولية كاملة مع أمه. 

قال له أبوه وهو يعانى من شدة المرض التى وضعته على عتبة سكرات الموت: إذا مت وكان عندك امتحان اذهب إليه، وبعد شهر واحد من هذه الكلمات وجد نصر نفسه وحيدًا يصارع الحياة وتصارعه. 

ترك الأب الفقير وراءه أسرة من ستة أطفال، فوضع نصر يده فى يد أمه، وبدأت حياته تتوزع بين المدرسة ومحل البقالة الفقير لينفق منه على أشقائه، واحترفت أمه الخياطة حرفة تتكسب منها، حتى تدفع بسفينة الحياة إلى الأمام. 

لم يكن نصر فى حياة أمه ابنها الأكبر فقط، لكنه وجد نفسه يعاملها كزوجة يغار عليها، خاصة أنها كانت شابة وجميلة، يقول عنها: أكثر ما كان يميزها جلد ناعم جميل، كانت طفلة أبيها المدللة، لذا قضت طفولتها داخل المنزل، ويومًا ما أخبرتنى خالاتى «كانت أمك الأقرب لأبينا، وكان علينا أن نؤدى جميع الوظائف المتعبة فى حين تجلس هى كالملكة لا تفعل شيئًا». 

ونصل مع نصر إلى ما سيدلنا على علاقته بأمه، كانت فى الخامسة والثلاثين من عمرها حين توفى والده. 

يحكى نصر ما جرى له وعليه: بوفاة والدى شعرت بتغيير عميق ينتابنى، لم أعد أرى نفسى طفلًا، فجأة أصبحت رجلًا أحمل مهمة كبيرة استولت علىّ بالكامل، كيف سأستطيع تدبير المأكل والملبس وتعليم إخوتى الصغار؟ أصابتنى نزعة التملك تجاه والدتى، كنت مرعوبًا أن أخسرها هى أيضًا، فلقد جذبت ناحيتها عددًا من المتقدمين، بدأ الرجال يظهرون حول منزلنا، رأيت كيف غازلها البعض، وكنت أشعر بالغيرة تحرق صدرى، تمنيت لو أن أمى قبيحة، ليبتعد الخاطبون وأكون فى مأمن، كل هذه المشاعر تجمعت فى شكل سلوك عنيف وغاضب تجاه والدتى. 

دفعه هذا السلوك العنيف إلى محاولة الاعتداء على أمه، يتذكر آسفًا: كنت ممسكًا بمقص، لا أدرى تحديدًا السبب الذى أشعل الغضب بى ليدفعنى أن ألقى به ناحية أمى، لحسن الحظ تفادته، وإلا لكانت أصيبت إصابة خطيرة، للحظة أمعنت النظر بى قبل أن تذهب لغرفتها، أرعبنى هذا الصمت ونظرتها الحازمة. 

تصرفت والدة نصر بما يمكننا اعتباره إعادة تربية جديدة له، جمعت كل ملابسه فى ملاءة، وعقدت أطرافها، ثم ألقت بها أمام باب المنزل ودفعته وراءها، وأغلقت الباب بشدة، تصور نصر أنها فى غضون ساعات ستهدأ، وربما تبكى، ثم ترجوه للعودة إلى المنزل، لكن الأمور لم تجر كما توقع. 

يروى نصر ما جرى بحسرة: مرت بضع ساعات، وبدأ الناس يلاحظون وقوفى أمام باب منزلى ممسكًا بملاءة معقودة، بدأ التساؤل: ماذا يحدث؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ولم يكن لدى أى اختيار آخر سوى أن أخبرهم بما حدث، ومع مجىء الليل بدأ يتجمع حولى المزيد من الناس، يتساءلون عن طبيعة الفعل الذى أتيت به، ودفع بأمى لهذا التصرف: ماذا يمكن أن يكون قد حدث؟ هكذا قال البعض بصوت عالٍ: نعرف أنها بالداخل. 

استدعى أبناء القرية بعض الرجال الذين يمتون بصلة قرابة لحل هذه المشكلة، هؤلاء الرجال كانت لهم حيثية وسلطة قوية فى القرية، نادى واحد منهم: يا أم نصر، افتحى الباب، ففعلت، ليدور هذا الحوار: 

الرجل: ماذا يفعل ابنك بالخارج؟ 

الأم: لم يحدث شىء، إنه بالخارج لأنه لا ينتمى إلى هنا؟ 

الرجل: ماذا تقصدين؟ 

الأم: إنه لا ينتمى لى، إذا أردت أن تحصل عليه تفضل، لكنه ليس ابنى.

الرجل: لا.. لا يمكن أن تفعلى ذلك، أرجوك من أجل خاطرى لا تفعلى ذلك. 

الأم: لا.. نصر لا ينتمى لى. 

يختم نصر القصة: كان هذا الرد كفيلًا بإثارة غضب الرجل، لا يوجد رجل بالعائلة يقال له لا، لكن ها هى أمه، امرأة تقف أمامه وترفض ما يطالبها به، وكما لو أنه حاول أن يذكرها بمسئوليتها تجاهى قال لها: أنت لا تستمعين لى. لكنها كانت شجاعة، قالت له: استمع إلىّ، نصر ولدى، قام بإلقاء هذا المقص ناحيتى، الآن هو مجرد ولد أطعمه، ماذا يمكن أن أتوقع منه بعد سنوات قليلة؟ كيف سيعاملنى مستقبلًا إذا كان يتصرف هكذا الآن؟، لم يستطع الرجل الرد عليها، فأكملت: لو أراد نصر الرجوع للمنزل فتحت شرط واحد، لا بد أن يُقبل قدمى. 

لم تنتظر الأم ردًا من أحد، أخرجت الكرسى الوحيد لديها، وعلى مرمى من بصر سكان القرية المجتمعين، جلست عليه ومدت قدميها. 

يعلق نصر على ما جرى: بدت لى وقتها كالملكة كليوباترا، انحنيت ككلب، قبلت قدميها، ثم سمحت لى بالرجوع للمنزل، انتهى العرض ورحل الجميع، وكانت هذه أكثر لحظات حياتى إذلالًا، أن أقبل قدميها أمام كل أبناء القرية، فى تلك اللحظة كرهتها، وفى تلك الليلة وصل لسمعى صوت بكائها المكتوم، بدأت أدرك حينها كيف أن الحياة صعبة عليها. 

وفى الصباح التالى بدت سعيدة لا تحمل تجاهه أى ضغينة، ووجدها تتحدث إليه بكل هدوء: اسمع.. أنت ولدى ولست زوجى، أنتظر منك أن تتعامل كولد مطيع، يومًا ما ستكون مسئولًا عن هذه العائلة حين تكبر، أما الآن فأنا المسئولة عنها، وأتوقع منك أن تحترمنى وتطيعنى.

غدًا..  نصر أبوزيد فى مواجهة شيخ المسجد وعفاريت «قحافة» 

تاريخ الخبر: 2023-04-02 00:22:47
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٤)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:21:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:38
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية